من المعلوم أن النحل عندما يلسع كائنات آخرى تبقى الإبرة في جلد الكائن الملسوع والتي تفصل أحشاء النحلة مما يؤدي إلى موتها. هل هذا دقيق و لماذا تطور النحل بهذا الشكل الذي يؤدي لموته بعد اللسع ولماذا تتخذ النحلة هذا القرار الذي يؤدي لموتها أصلاً؟ للإجابة على هذه الأسئلة ينبغي توضيح عدة محاور مهمة لهذا البحث. بداية يجب توضيح فكرة الاستثمار الجيني وكيف تتطور استراتيجيات التكاثر في الطبيعة بناء عليه. الاستثمار الجيني هو نسبة الاستثمار الذي يضعه الاباء من جيناتهم في إنجاح عملية التكاثر فمثلاً أنت تعد استثمار جيني لأبويك الذين استثمروا حوالي ٥٠٪ من جيناتهم لانتاجك. طبعاً هذه النسب هي نسب تقريبية لتوضيح الفكرة وتتفاوت في واقع الحال.
الترابط العائلي ترابط غريزي يعمل فيه كل فرد في المساهمة على نشر جيناته عبر مساعدة أقربائه. هذا يعني أنه عندما يساعدك أخوك هو يقوم بذلك ليساهم في نشر جيناته وأنت عندما تساعد أولاد عمك أنت أيضاً تساهم في نشر جيناتك. وهكذا تنحدر نسبة لإستثمار الجينية إلى أن نصل إلى أنواع آخرى انتهاء بالبكتريا مثلاً. هذا يعني أن تعاطفنا مع الأحياء ناتج عن رغبتنا بمساعدتهم على نشر جيناتهم التي قد تكون متشابهة مع جيناتنا وإن كانت نسبة التشابه قليلة نبسياً بالمقارنة مع أقربائنا ومعارفنا من البشر.
جميل لكن ما علاقة كل هذا بموضوع السؤال؟
فهم الاستثمار الجيني للكائنات يفسّر استراتيجياتهم في التكاثر. التكاثر لدى النحل يختلف بشكل كبير عن التكاثر لدى الثدييات مما ينتج عنه استراتجيات بقائية مختلفة والأفعال التي قد تبدو لنا على أنها تضحية أو انتحار بسبب منظورنا للتصرفات من مفهومنا للتكاثر يختلف عند فهم استراتجيات الأحياء الأخرى.
يقوم ذكر النحل بتلقيح الأنثى مرة واحدة فقط في حياته وتحتفظ الأنثى بكل المخزون اللازم من الحيوانات المنوية لإنجاح عملية التكاثر خلال كل حياتها. هنا يتوجب التدقيق قليلاً لأن الفكرة قد تصبح مركبة بعض الشيء. الذكر الذي لقح الأنثى لديه حيوانات منوية متطابقة بالضبط )لا تفاوت أو اختلاف جيني فيها) وسأوضح لماذا بعد قليل لكن هذا يعني أن جميع الأبناء الذين سيولدون بسبب تلقيحه سيكونون متطابقين بنسبة عالية جداً وذلك لأن كروموزومات الأم + كروموزومات الأب المتطابقة هي ما سيشكل الأبناء.
الان لدينا أنثى ملقحة بمخزون كبير من الحيوانات المنوية المتطابقة. أنثى النحل تتحكم بمتى تلقح بيوضها مع هذه الحيوانات المنوية المخزنة فإن وضعت بيوض غير ملقحة ينتج لديها ذكور (إذاً الذكر الذي سيلقح الإناث مستقبلاً لديه حيوانات متطابقة جنياً لأنه نتجية بويضة أنثوية غير ملقحة “١٠٠٪ من جينات الأم”). في حال قامت الأنثى بتلقيح بيوضها مع الحيوانات المنوية المخزنة لديها فإنها ستضع بيوض ينتج عنها إناث وهؤلاء الإناث سيكن متقاربين جينياً لأنهم نتيجة حيوانات منوية متطابقة مع بيوض أمهم المتقاربة نسبياً في الحمض النووي.
خوفاً من تعقيد هذا المحور أكثر من ذلك فإن الفكرة الأساسية هنا أن عملية التكاثر لدى النحل تعتمد على الملكة التي هي بدورها تقوم بتنظيم عملية التكاثر ضمن الخلية. ضمانة استمرار النسل لدى كل فرد من افراد الخلية لا يعتمد على سلامته الخاصة وإنما على سلامة الملكة وقدرتها في الاستمرار في وضع البيوض. أبناء الملكة (ذكور أو إناث) غير قادرين على التكاثر ويعتمدون بشكل كامل على الملكة في استمرار التكاثر.
مع الوقت تتحول إحدى الإناث إلى ملكة (بسبب نوعية الطعام التي تأكله) ولكنها تغادر الخلية بحثاً عن ذكر يلقحها لكي تبدأ خلية جديدة لوحدها. هذا يعني أنني لو كنت نحلة فأن وسيلتي الوحيدة في الاستمرار والتكاثر هي عن طريق ضمانة سلامة الخلية بشكل عام والملكة بشكل خاص. أبنائي المستقبلين هم نتيجة تلقيح إحدى أناث الخلية بعد مغادرتها من قبل ذكر آخر وبالتالي فإن سلامتي الشخصية ليست مهمة لاستمرار نسلي.
هذا الفكرة تؤثر بشكل مباشر بكيف تتعامل النحلة مع المخاطر التي قد تؤدي لتوقف نسلها.
نحن ندافع عن أبنائنا لأنهم الضامنون لاستمرار نسلنا في المستقبل لكن في حالة النحل فإن كل فرد يدافع عن الخلية ككل لأن استمرار نسله يعتمد على بقاء الخلية وليس سلامته الشخصية. بحكم أن النحل لا يستطيع أن يتكاثر إلا من خلال الملكة فإن موت أي فرد من أفراد الخلية ليس مشكلة بالنسبة لهذا الفرد طالما أن الخلية على ما يرام على عكس حالة الثدييات حيث يجب عليهم رعاية أبنائهم إلى أن يصلوا لمرحلة التكاثر.
حسناً الأن أستطيع طرح المحور الثاني من الجواب وهو سبب تطور النحل بحيث يموت عند اللسع. في الواقع يوجد مشكلة في طرح الفكرة هنا إذا أن النحل لم يتطور لكي يموت بعد اللسع وإنما عملية اللسع لم تتطور ضد الثدييات والكائنات ذات الجلد القاسي وإنما ضد حشرات آخرى. هذا يعني أن النحلة تستطيع لسع الحشرات الآخرى عدة مرات دون أن تموت إلا أن جلد الإنسان وغيره من الثدييات قاسي مما يؤدي لاقتلاع أحشاء النحلة المرتبطة بالابرة بعد اللسع. سبب استمرار ظاهرة الموت بعد اللسع وعدم انقراض النحل أو انتقاء طبيعي له يعود إلى إستراتيجية النحل التكاثرية حيث أن موت الأفراد لايؤثر على المستقبل الجيني لهولاء الأفراد طالما أن الملكة على مايرام.
إذاً النحلة عندما تلسع الإنسان ليس هدفها القيام بعملية انتحارية لكن نتيجة تطور ابرتها للدفاع ضد حشرات أخرى لا يساعدها في لسع كائنات ذات جلد قاسي مثل الإنسان لكن بسبب استرتيجيتها التكاثرية فأن موتها لايؤثر على استمرار نسلها وبالتالي لايوجد ضغط تطوري لتبديل هذه الميزة.
لا يوجد لدي دليل لكن ممكن أفتراض أن تطور جلد الإنسان بهذه الطريقة هو نوع من أنواع سباق التسلح في الطبيعة حيث أن الإنسان كان يعتمد بشكل كبير على سرقة عسل النحل و تطور جلد يقاوم لسع النحل يعتبر ميزة مفيدة لدرجة تعطي أولوية بقائية مقابل البشر الذين لديهم جلد اقل سماكة (مجرد افتراض). الاستمرار الجيني يفسر لماذا النحل لا يرتدع أو ينقرض رغم أنه يرصد أن غيره من النحل يموت بعد لسع الكائنات ذو الجلد السميك. هدف النحلة هو الدفاع عن الخلية وليس الدفاع عن نفسه وذلك في سبيل استمرار نسله عبر الأجيال.
النحل لا يبادر إلى اللسع إلأ إن شعر بخطر يواجه الخلية. عملية اللسع ينتج عنها فرمونات (إشارة كيميائية) لجميع النحل المتواجد بالقرب من المكان بوجود خطر وأن على الجميع المساهمة في الدفاع عن الخلية.
النحل في الأحوال العادية يستطيع أن يلسع دون أن يموت وبالتالي عندما يتم اتخاذ القرار بمهاجمة أحد الثدييات مثلاً فهذا القرار ليس قرار انتحاري وإنما قرار دفاعي ينتج عنه موت النحل كنتيجة لسماكة الجلد. لكن ولأن بعض البشر مصاب بمشكلة المركزية البشرية صار سائداً افتراض أن النحل يموت عند لسع اي شيء. النحل يموت بسبب سماكة جلد الإنسان لكنه يستطيع لسع كائنات آخرى عدة مرات دون أن يموت.
معلومة:
تسمية “ملكة النحل” هي تسمية غير دقيقة ولا توصف عمل هذه النحلة؟
الملكة لديها هدف واحد في الحياة وهو وضع البيوض والعناية بها بينما يحميها أفراد الخلية ويمنعوها من الحركة لكي تستمر في الإنجاب. عملياً الملكة أسيرة الخلية وهي الوحيدة غير القادرة على الحركة لأن عليها الاستمرار في انتاج البيوض وحضنها. في حال بدأت الحاضنة “الملكة” في الإخفاق في عملها في انتاج البيوض، يقوم أفراد الخلية بوضع ملكة جديدة وثم يقتلون القديمة.
المصادر: موقع علومي