يرجع اكتشاف قدرة أجهزة الجسم الداخلية على احتفاظها بتوازنها بشكل مستمر بغية الحفاظ على الحياة للطبيب الفرنسي كلود برنار الملقب برائد علم وظائف الأعضاء (الفسيولوجي)، وقد وصف هذه الميزة البديعة للجسم وعبر عنها بمصطلح Homeostasis ومعناه الاستتباب أو الاتزان الداخلي. يعني ذلك أن كل جهاز من أجهزة الجسم يعلن حالة الطوارئ عند حدوث أي أمر ينجم عنه خلل في توازن الجسم، ونحن الآن بصدد عرض بعض أشكال الاتزان الداخلي للجسم ولكن بمنحى مغاير.
وللوقوف على أهمية ما سنعرض له في السطور القادمة؛ يجدر بنا التذكير بأن عدد خلايا جسم الإنسان البالغ يربو على 1600 مرة عدد البشر على سطح المعمورة، وكل خلية من هذه الخلايا يوجد عليها حوالي 10 على الأقل من الكائنات الدقيقة، ومعنى ذلك أن حجم خلية الكائن الدقيق أقل 1000 مرة من حجم خلية جسم الإنسان.
بدايةً فإن درجة الأس الهيدروجيني PH تتباين من مكان إلى آخر داخل الجسم بما يساعد على أداء أفضل للأجهزة المختلفة؛ ومن ذلك أن درجة الأس الهيدروجيني للجلد تقع في متوسط ما بين (PH 5.5 – 6.5)، في حين أن درجة الأس الهيدروجيني داخل الفم تتراوح ما بين (PH 5.6 – 7.9)، وعند تدني درجة الأس الهيدروجيني للوسط الحمضي (PH 5.5)، يحدث تحلل طبقة الإناميل، وتسوس الأسنان. وفي المعدة يكون الأس الهيدروجيني حمضي (PH 1.5 – 4.0)، وتقوم المعدة بإنتاج حمض الهيدروكلوريك، الذي يعمل على تنشيط الإنزيمات الهاضمة، أما في الإثنى عشر فإن الأس الهيدروجيني يكون قلويًا (PH 7.0 – 8.5)، ثم يكون في الأمعاء متعادل القلوية. في المهبل يعمل الوسط الحمضي (PH 3.8 – 4.5) على منع حدوث العدوى الميكروبية؛ أي أن الوسط الحمضي في بيئة المهبل يقوم بدور المواد المطهرة الموضعية، كما سيتضح لاحقًا.
توجد أنواع عديدة من الكائنات الدقيقة داخل الجسم وعلى الجلد من الخارج. الكائنات الدقيقة داخل الجسم إلى كائنات صديقة للإنسان وتسمى كذلك بالفلورا الطبيعية، وكائنات دقيقة انتهازية؛ تكون في الظروف الطبيعية غير ممرضة للإنسان، إلا أنها في تترقب الفرصة المناسبة لتتحول إلى كائنات دقيقة ممرضة Pathogenic microorganisms وللحيلولة دون وصول الكائنات الدقيقة الانتهازية لمبتغاها، فإن الأجهزة المختلفة يتعين عليها الحفاظ على اتزانها الداخلي مما يفرض سيادتها، وإحكام قبضتها على الكائنات الإنتهازية بما يضمن سلامة الجسم. ومن بين سبل الحفاظ على سلامة الأجهزة الداخلية الإبقاء على درجة الأس الهيدروجيني في معدلاتها الطبيعية.
الفلورا الطبيعية تعيش مع أجهزة الجسم في حالة تناغم مبنية على التكافل بينهما، فالصفقة المبرمة بين الجسم والفلورا الطبيعية تقتضي أن يوفر الجسم المأوى لهذه الفلورا والغذاء، على أن تقوم الفلورا الطبيعية بمساعدة الأعضاء الداخلية بما يؤدي لصحة الجسم، وطرفي الصفقة على وئامٍ غاية في التناسق والإبداع. فعلى سبيل المثال تقوم الفلورا الطبيعية في الفم بتضييق الخناق على بكتريا العقدية الطافرة S. mutans صاحبة الكلمة العليا في تسوس الأسنان، مما يؤدي لتقليل قدرة S. mutans على إنتاج حمض اللاكتيك، والذي بدوره يعمل على تفكيك طبقة الإناميل وتسوس الأسنان. بكتريا S. mutans تمثل 30 – 60 بالمائة من بكتريا تجويف الفم، وتتكاثر كل 143 ثانية بما يعني أنه بمرور 71.75 ساعة تقوم هذه البكتريا بإنتاج 1.0 بليون بكتريا، وهو ما يفوق المستوى الثالث لصحة الفم (المستوى السيئ).
والآلية التي تتبعها الفلورا الطبيعية لإيقاف صخب البكتريا المسببة لتسوس الأسنان تتلخص في قيام بكتريا لاكتوباسيلس L. reuteri بتحويل الوسط من حمضي (وهو الوسط اللازم لنشاط بكتريا تسوس الأسنان) إلى وسط قلوي لا يوائم متطلبات نمو وتكاثر البكتريا المسببة لتسوس الأسنان. هذا ويحتوي الفم على حوالي 700 نوع من الكائنات الدقيقة، وهذا يشير للدور الكبير الذي تلعبه الفلورا الطبيعية في الحفاظ على الأسنان من التسوس في ظل هذا العدد المهول من الكائنات الدقيقة. الفم النظيف لا يخلو من البكتريا؛ بل يحتوي على ما بين 1000 – 100000 بكتريا على كل سن.
إذا نزلنا من سرداب الفم باتجاه تجويف القناة الهضمية، فبوصولنا إلى المعدة نجد الوسط الحمضي يجبر الكائنات الانتهازية على رفع راية الطاعة -حتى إشعارٍ آخر- ثم بمرورنا على الأمعاء، نرى أن درجة الأس الهيدروجيني تدعم وتناصر الفلورا الطبيعية. هذا الدعم للفلورا الطبيعية ليس عبثيًا؛ بل لأن الفلورا الطبيعية لا تدخر جهدًا في خدمة الجسم البشري، فهي تقوم بإفراز إنزيمات تساعد على امتصاص الكربوهيدرات وتحولها لطاقة يستفيد منها الجسم، كما تساعد على امتصاص الحديد والكالسيوم والماغنسيوم، وتمنع التهاب القولون، وتعزز قدرة جهاز المناعة، فضلاً عن تحسين امتصاص الغذاء والماء، وبناء فيتامين K وفيتامين كوبالامين B12. تعمل الفلورا الطبيعية على تحفيز النسيج الليمفي والأحماض الدهنية قصيرة السلسلة الناتجة عن تخمر الكربوهيدرات مما يحول دون التهاب الأمعاء، وتلعب الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة دورًا في تكاثر وتمايز الخلايا المبطنة للأمعاء الدقيقة مما يعزز من صحة الأمعاء الدقيقة.
في الظروف الطبيعية تسير الأمور وفق ما عرضنا له سلفًا، وتكون النسبة بين الفلورا الطبيعية 85 بالمائة بينما نسبة الكائنات الدقيقة الانتهازية 15 بالمائة، ومن المعلوم أن الظروف الطبيعية لا تستمر بشكلٍ دائم، وقد يحدث خلل في نسبة الفلورا الطبيعية لأسبابٍ متعددة منها: الحمية الغذائية القاسية، تناول المضادات الحيوية، تناول وجبات غذائية غير صحية، الإسهال، سوء الهضم، الملوثات البيئية، الضغوط الحياتية، العلاج الكيماوي، العوامل الوراثية وغيرها من الأسباب؛ مما يترتب عليه فرض الكائنات الانتهازية سيطرتها المؤقتة على الساحة، وتتسبب في إحداث مشاكل صحية إن أهملت. تعمل المضادات الحيوية على قتل الفلورا الطبيعية جنبًا إلى جنب مع الكائنات الدقيقة الضارة مما يستدعي ضرورة تشكيل قوات الفلورا الطبيعية لفرض حالة الأمن داخل الجسم.
هناك العديد من السبل التي يمكن الاستعانة بها من أجل استرداد الفلورا الطبيعية في حال إذا ما نقص معدلها لأي سببٍ كان. من بين هذه الطرق تناول منتجات الألبان لاسيما الزبادي واللبنة، وخصوصًا المحتوي على البكتريا الطبيعية والمعروفة باسم Probiotic فهي تؤدي لزيادة الفلورا الطبيعية مما يترتب عليه سرعة استرجاع الظروف المثلى التي تحول دون نمو الميكروبات المزعجة. تحتوي Probiotics على بكتيريا صديقة للجسم مثل بكتريا لاكتوباسيلس Lactobacillus spp وبيفيدوباكتيريم Bifidobacterium spp وهى أنواع تعمل على توفير البيئة الغير مناسبة لنمو الميكروبات الممرضة والانتهازية. أيضًا فإن Prebiotics مهمة جدًا وهي تختلف عن Probiotics إذ أن Prebiotics عبارة عن كربوهيدرات يتم تناولها في صورة كبسولات لتصل للمعدة والأمعاء فتغتذي عليها الفلورا الطبيعية بشكل مباشر مما يرفع من نشاطها. ومن الأطعمة القلوية المفيدة في ذات الصدد؛ السبانخ والبروكلي والخيار والبصل والفاصوليا الخضراء، ومن الفواكه العنب والمانجو والأفوكادو، والفواكه الحمضية. الكائنات الانتهازية قد يصل حجم ضررها إن أُهمِل علاجها للإصابة بالعقم للرجال والنساء على حدٍ سواء، وربما تقضي على حياة الشخص، مما يوجب الحذر.
ولتتذكروا دائمًا: درهمُ وقايةٍ خيرٌ من قنطارِِ علاج!
المصادر : مدونة عالم الإبداع