ما هي البيئة؟
البيئة في اللغة العربية من فعل بوأ، أي نزل في المكان وأقام به واتّخذه منزلاً له والمعنى الاصطلاحيّ للبيئة يتقارب مع المعنى اللغويّ.
ويُمكن تعريف البيئة اصطلاحاً بأنّها: المحيط أو الحيّز الجغرافيّ- الاجتماعيّ الذي يعيش فيه الطفل، ويحصل فيه – بما يحويه من موارد – على مقوّمات حياته، ويُمارس فيه كافة أنشطته وعلاقاته مع الأشياء والكائنات الحيّة المختلفة المحيطة به، ومع باقي أفراد البشر المشاركين له في وحدة الحياة، سواء أكان حيّزاً جغرافياً صغيراً كالبيت أو المدرسة، أو حيّزاً جغرافياً كبيراً كالحيّ أو القرية أو المدينة أو الطبيعة…
أنواع البيئة صنّفت البيئة إلى أنواع مختلفة حسب استفادات العلوم والباحثين، منها: بيئة جغرافية، بيئة اجتماعية، بيئة ثقافية، بيئة صحّية، بيئة صناعية…، وسنُصنّف بدورنا البيئة بالنحو الذي يُمكّننا من الاستفادة منه، يخرج الطفل من رحم أمّه إلى الحياة، فيرى حوله عالمين سيعيش فيهما من دون أيّ اختيار له في بنائهما:
1- البيئة الطبيعية والمحيط الحيويّ الذي خلقه الله تعالى، بما يحويان من كواكب وأرض وما يعيش عليها من كائنات كالحيوانات والحشرات والنباتات… 2- والبيئة البشرية التي بناها الإنسان ليعيش فيها، من مدن وقرى، وما تحويه مادّياً من أبنية وطرق ومصانع ومطارات ومؤسّسات، أو ثقافياً (البيئة الثقافية) واجتماعياً (البيئة الاجتماعية)…
فالبيئة البشرية تشتمل على أربعة أمور: أولاً: الأفراد بما هم أفراد.
ثانياً: النظرة التركيبية إلى مجموع الأفراد بما هم مضطرّون إلى العيش المشترك في حيّز جغرافيّ واحد، تجمعهم فيه قواسم واحدة من حيث العقيدة والقيم، أو الأنظمة والقوانين والتشريعات، أو الحوائج والمنافع والمصالح…، فيتشكّل المجتمع بدوائره المختلفة سعة وضيقاً، من القرية أو المدينة أو الدولة أو الإقليم أو حتى المجتمع العالمي.
ثالثاً: التراث الإنسانيّ المتراكم عبر التاريخ في المجالات المعرفية المختلفة، من فلسفة وقانون وأخلاق وطب ورياضيات وطبيعيات…، وفي المجالات السلوكية من عادات وتقاليد وأنماط حياة وأساليب عيش ومهارات…
رابعاً: المنجزات المادّية للحضارة البشرية، ومصنوعات الإنسان ومخترعاته ومكتشفاته، من عمران وأبنية ومؤسّسات وجسور وطرقات وآلات كهربائية وأدوات إلكترونية…
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل لهاتين البيئتين البشرية والطبيعية أيّ دور في بناء هويّة الطفل؟ وكيف يؤثّران على رسم ملامح شخصيّته؟
تأثير البيئة البشرية – الاجتماعية على الطفل يخرج الطفل من بطن أمّه كالأرض الخالية، وقد زرعت يد الله تعالى في طينته خاصّية عجيبة، وهي القدرة العالية على المحاكاة والتقليد وسرعة التلقّي. فحاسّة التقبّل عند الطفل شديدة إلى درجة أنّه أشبه بعدسة التصوير3. وفي هذا السياق ورد عن الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام: “إنّما قلب الحَدَث كالأرض الخالية ما أُلقي فيها من شيء قبلته”4. فنفس الطفل إسفنجية مرآتية إنْ صحّ التعبير، تمتصّ كلّ ما تتعرّض له من الخارج وتخزنه في ذاته، وتعكس من جهة أخرى صورة المجتمع الذي تعيش فيه.
فالمحيط الاجتماعيّ الذي ينشأ الطفل في مجاله بكافّة مؤسّساته: – الأسرة، الحيّ، الجيران، الأقارب، المدرسة، الأصدقاء، مجموعات اللعب، الجمعيات الكشفية، الأحزاب السياسية، المساجد، الحسينيات، الأندية الرياضية، البيئة المجتمعية الكبيرة… بالإضافة إلى عنصر خاصّ أصبح حاضراً بقوّة في عصرنا، وهو العالم الافتراضيّ والفضاء المجازيّ من الإنترنت وصفحات الفايس بوك والبرامج التلفزيونية…- يلعب دوراً بارزاً في تحديد ملامح هويّة الطفل الذهنية والنفسية والقيمية والسلوكية والوجدانية…، فالطفل لم يكتسب تصوّراته وعقائده واتجاهاته وقيمه وسلوكاته ومهاراته من تلقاء نفسه ونتيجة لتأمّله الذّاتي، بل بفعل تأثّره بالمحيط الخارجيّ، فتتشكّل لوحة شخصيّته بفعل الانفعال والتأثّر بالبيئة الاجتماعية، لأنّ شخصيّته كالعجينة التي يُمكن تشكيلها بسهولة.
يقول محمد لبيب النجيحي: “يتدرّج كلّ طفل إنسانيّ في مجتمع متكوّن بالفعل، وينشئ علاقات إنسانية مع أفراد من هذا المجتمع، لهم عاداتهم وتقاليدهم، وأنماط سلوكهم، وطرق قيامهم بالأعمال المختلفة، ونظرتهم إلى الأمور، ومشاعرهم وأحاسيسهم، وقيمهم، وعلى مدى سنوات قليلة يكون قد اكتسب الطفلُ معظم هذه الطرق والعادات والقيم والمبادئ كمكونات لشخصيّته، وذلك عن طريق التفاعل الاجتماعيّ بين هذا الطفل وبين بيئته الاجتماعية في كلّيتها”5.
فحتى الفطرة التوحيدية الصافية التي أودعها الله بأصل الخلقة في نفس الطفل لا تصمد أمام تأثيرات روح البيئة الأسرية والمجتمعية، عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، قال: “ما من مولود يولد إلّا على الفطرة فأبواه يُهوّدانه ويُنصّرانه و يُمجّسانه…”6. فهذا الحديث يُقدّم مؤشّراً واضحاً على الدور الذي تلعبه البيئة الأسرية في التأثير على رسم المعالم العامّة لشخصية الطفل، وكذلك الأمر بالنسبة للبيئة الاجتماعية العامة. وفي هذا السياق ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: “بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة”7. وفي الحقيقة هذا الأمر مشاهد في البالغين الراشدين فكيف في الطفل؟ وهذا ما يُخبرنا عنه القرآن عن أولئك الذين كان النبيّ يدعوهم لاتّباعه فيُجيبون: ﴿بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَ﴾8. ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾9.
وباختصار: “لا – أحد – يستطيع أن يُنكر أصل تأثير ونفوذ البيئة الاجتماعية في تكوين شخصية كلّ واحد من أفراد الإنسان، وأن هذا التأثير والنفوذ عميق وشامل بالنسبة للأكثرية الساحقة من الناس، فلا ريب أنّ الفرد في كثير من الأحيان تابع ومحكوم لإرادة المجتمع”10.
منهجية البحث بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون لكي يكون البحث أكثر منهجية، لا بدّ من التمييز بين نظرتين إلى وجود الطفل في المجتمع، الأولى: بلحاظ ما هو كائن وواقع في تجربة المجتمعات البشرية على مرّ التاريخ، والثانية: بلحاظ ما يُمكن أو ينبغي أن يكون.
أمّا بالاعتبار الأول: فلا شكّ في أنّ الطفل بل الإنسان عامة هو صناعة مجتمعه، فغالباً ما يسبح الطفل والإنسان في بحر عقائد وقيم وسلوكات المجتمع الذي يعيش فيه، فيُفكّر ببرامج تفكير البيئة الاجتماعية، ويتحدّث بلغة المجتمع، ويلتزم بعاداته وتقاليده وأعرافه…، وهذا أمر طبيعي في الطفل بسبب قدرة المحاكاة والتقليد، وعدم قدرته على التمييز والمقارنة والتقويم الشخصيّ لاختيار ما هو مناسب وأنسب، فتندكّ إرادة الطفل في إرادة المحيط الاجتماعيّ.
وعليه، كلّما سادت المجتمع نظرة فلسفية تربوية واحدة ومشتركة ومنسجمة ومنسّقة كلّما نشأت شخصية الطفل بشكل متوازن ومنسجم، وكلّما زادت التمايزات والاختلافات في الرؤى التربوية لمختلف مؤسّسات المجتمع كلّما كانت شخصية الطفل أكثر تناقضاً، وسيعيش حالة من الحيرة والاضطراب خصوصاً مع فقدانه لميزان التمييز بين الصحّة والخطأ. وهذا يؤكّد مدى الحاجة إلى توحيد الرؤى التربوية في مؤسّساتنا المجتمعية المختلفة: الأسرة، المدرسة، الكشّاف، وسائل الإعلام، الجمعيات الثقافية… في الجواب عن سؤالين أساسيين: على ماذا نُربّي؟ وكيف نُربّي؟
أمّا بالاعتبار الثاني: فإنّ المجتمع ليس هو العامل الحصريّ الذي يحتكر صناعة شخصية الطفل وتشكيل هويّته بنحو قهريّ، إلى درجة يكون معها فاقداً للهوية الفردية، وبالتّالي يكون علم الاجتماع علماً واقعياً، في حين لا يكون علم النفس كذلك لعدم وجود هويّة فردية11.
فهناك جملة عوامل أخرى، منها الوراثة، وأهمّها التفاعلات الداخلية في نفس الطفل والانطباعات والخبرات الشخصية في خطّ علاقته مع الأشياء صحّة وخطأ وقبحاً وحسناً- في مرحلة معيّنة-، لأنّه يملك الإرادة الحرّة التي زرعتها يد الله تعالى في تكوينه بنحو تمنحه القدرة على اختيار ما يشاء من فعل أو ترك، لذا لا بد من التمييز بين تأثير المجتمع في الطفل وتأثّره عنه، وبين الجبر الاجتماعيّ، فإنّ تأثّر الطفل عن المجتمع لا يعني أنّه أصبح تحت عجلة الجبر الاجتماعيّ لوجود عنصري الانطباع والرؤية الخاصة نحو الأشياء (العلم بمراتبه) والاختيار والإرادة الحرّة.
وبعبارة مختصرة هنا حقيقتان: الأولى: أنّ المجتمع مؤثّر في صناعة شخصيّة الطفل. والثانية: أنّ تأثير المجتمع لا يصل إلى حدّ الجبر الاجتماعيّ وسلب عنصر الإرادة الحرّة والاختيار.
المسؤولية التربوية وعلى كلّ حال، هذا كلّه، يضع أولياء أمر تربية الطفل أمام مسؤولية جسيمة، تتمثّل في أربعة أمور:
الأول: تربية الطفل على التفكير النقديّ والاستدلاليّ الحرّ كي تكون لديه ملكة التمييز الفكريّ بين ما هو صحيح وما هو خطأ وما هو حسن وما هو قبيح، وعدم سرعة تقبّل أي فكرة إلّا بعد التمحيص والتقويم.
الثاني: تقوية الإرادة وتصليبها في شخصية الطفل، حتى لا يكون مجرّد عنصر منفعل ومتأثّر بنحو سلبيّ، بل تكون لديه قوّة وقدرة على مواجهة ومقاومة ما يُعايشه في المجتمع، بل وقدرة التأثير والتغيير أيضاً.
الثالث: تهيئة البيئة الأسرية الصالحة الحاضنة لتنمية الطفل، أي جعل البيئة المنزلية صالحة، تشعّ فيها كيمياء السعادة، وينتشر فيها عبير المحبّة والمودّة والرحمة و…، لأنّ الطفل يرى في أبويه النموذج الذي يحتذي به، وهذا يستلزم أن تكون العلاقة بين الأب والأم وكذلك مع الإخوة الآخرين قائمة على مصفوفة القيم الإسلامية من الاحترام المتبادل والتعاون والمزاح والحوار والتجمّل والتنظّف والسلوكات الصحية…، فلا يُظهران أمام الطفل أي سلوك سلبيّ، وحتّى لو اضطرهما الغضب أن يتصرّفا بطريقة متنافية مع روح التربية، عليهما أن يسترا ذلك عن الطفل، بحيث لا يسمع ذلك منهما، بل عليهما أن لا يُشعرا الطفل من خلال لغة العينين أو البدن أو تقاسيم الوجه بأن بينهما أيّ حالة سلبية، لأنّ هذا يؤثّر على شخصيّة الطفل من جهتين:
الأولى: محاكاته لهما، فإنّ الطفل إذا عاش ضمن أسرة مفكّكة تقوم خطوط العلاقات فيما بين أعضائها على الشجار والصراخ والعبوس والضرب وسوء الأخلاق سيبني علاقاته مع الأشياء المادية والبشرية من حوله من خلال نفس الأساليب السلبية القائمة على الاعتداء والتحطيم والتكسير و…
والثانية: أنّ الطاقة السلبية أو الإيجابية في البيت تعكس نفسها على باقي الأفراد سلباً أو إيجاباً، وهذا الأمر يشعر به الإنسان بالوجدان نتيجة تراكم الحالات والخبرات الشخصية، فقد يدخل إلى مكان فيشعر مباشرة بطاقة إيجابية أو رحمة أو فرح أو حماسة، ويدخل إلى مكان آخر ويشعر بطاقة سلبية أو حزن أو كآبة أو إحباط.
الرابع: البحث عن الموضع الحسن والبيئة الصالحة لوضع الطفل فيها. فعلى وليّ تربية الطفل أن يُحسن اختيار (وأحياناً: توجيه وإرشاد) مدرسة الطفل والوسط الطلّابي، ودار حضانة الطفل، وأصدقاء الطفل، ومجموعات اللعب، والنادي الرياضيّ، والجمعية الكشفية… ليوفّر بذلك لطفله المناخ والظروف الملائمة لتشكّل وتسامي هويّته بنحو صالح وحسن.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “يا عليّ، حقّ الولد على والده أن يُحسن اسمه، وأدبه، ويضعه موضعاً صالحاً”12.
وعن أبي الحسن موسى الكاظم عليه السلام، قال: “جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسولَ الله ما حقّ ابني هذا؟ قال: تحسن اسمه وأدبه، وضَعْه موضعاً حسناً”13.
وفي هذا السياق أيضاً نرى في النصوص الروائية الحثّ على اختيار المرأة الزوجة / الأم من بيئة اجتماعية حسنة لا من بيئة اجتماعية سيّئة، لأنّ لذلك تأثيراً سلبياً على شخصية الطفل، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: “إيّاكم وخَضْرَاءَ الدِّمَنِ. قيل: يا رسولالله: وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء”14.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: “تزوّجوا إلى آل فلان فإنّهم عفّوا فعفّت نساؤهم، ولا تزوّجوا إلى آل فلان فإنّهم بغوا فبغت نساؤهم…”15.
وفي المحصّلة ينبغي عدم ترك الطفل ينمو تلقائياً على ضوء مؤثّرات المجتمع وعاداته وتقاليده وقيمه ونشاطاته، بل على الوالدين أن يعملا على تربية الطفل وتنشئته اجتماعياً على تعاليم الإسلام16.
تأثير البيئة الطبيعية على الطفل إنّ الحديث عن العلاقة بين البيئة الطبيعية والطفل يتمّ في اتّجاهين:
الأول: نظرة الطفل إلى البيئة الطبيعية وسلوكه تجاهها وكيفية تعامله معها. الثاني: تأثير البيئة الطبيعية على تشكيل هويّة الطفل.
تأثير البيئة على البعد الجسمانيّ للطفل إنّ تأثير البيئة الطبيعية في البعد الجسمانيّ للطفل17 من المسائل البديهية التي أثبتها العلم التجريبيّ ويُعاينها الإنسان بالحسّ والخبرة الشخصية، كيف لا، والطفل عنصر من مكوّنات النظام البيئيّ الطبيعيّ ومجاله الحيويّ، فمثلاً لا يُمكن لأحد أن يُنكر تأثير عوامل المناخ من حرارة وبرودة على نمط حياته الصيفية أو الشتوية في لباسه وطعامه وسلوكه وأنشطته…، أو ينفي التأثير السلبي لتلّوث التربة والهواء والمياه… في تهديد الأمن الغذائيّ والسلامة الصحية للطفل…
كما لا شكّ أيضاً في أنّ البيئة الطبيعية تؤثّر في البعدين البيولوجيّ والفيزيولجيّ للطفل، لذلك تكون البنية الجسدية لسكان المناطق الباردة مختلفة عن سكان المناطق الصحراوية الجافة والحارة… إلى غيرها من النماذج الكثيرة.
لكن، إذا تجاوزنا تأثير البيئة الطبيعية في البعد البدنيّ والصفات الجسمية للطفل، السؤال الرئيس الذي يطرح نفسه: هل تلعب دوراً في البعد الذهنيّ والمزاجيّ والوجدانيّ والنفسيّ والسلوكيّ للطفل؟
هذا السؤال ليس جديداً على بساط البحث، فنجد أنّ أرسطو طاليس (384-322 ق.م) يربط في كتابه “السياسة” بين المناخ والجغرافيا من جهة وبين طبائع الشعوب. وكذلك نُلاحظ عند ابن خلدون (1332-1406م) في مقدمة كتابه المعروف العبر وديوان المبتدأ والخبر، حديثه عن أثر المناخ في طبائع الشعوب. وأيضاً ربط جان بودان (1530-1596م) بين طبائع الناس والمناخ، حيث اعتبر أنّ أهل الأقاليم الشمالية الباردة قساة مخاطرون، بينما يتّصف أهل الأقاليم الجنوبية الحارّة بالمكر والأخذ بالثأر، أمّا أهل الأقاليم المعتدلة فهم أكثر فطنة ونشاطاً ولديهم القدرة على القيادة. ونُلاحظ هذا الاتّجاه عند شارل لوي دي سيكوندا مونتسكيو (1689-1755م) في كتابه: “روح القوانين”، حيث يعتبر أنّ سكان المناطق الباردة أكثر قوة وشجاعة وأقل ريبة ومكراً من سكان المناطق الحارة الذين يتّصفون بالوهن الجسمانيّ والسلبية، مضيفاً أنه من خصائص البلاد الحارة مثلاً كون الغريزة الجنسية مفرطة بخلاف المناطق الباردة…18.
الرؤية الإسلامية في تأثير البيئة الطبيعية على الطفل إنّ جميع أطفالنا عندما يسمعون صوت الرعد أو نباح الكلب، أو يرون البرق وسعة البحر وظلمة الليل، أو يشعرون بالهزّة الأرضية، تتحرّك في داخلهم مشاعر الخوف والاضطراب، وكذلك عندما يسمع الطفل صوت زقزقة العصافير، أو يشاهد الحقول الجميلة والأزهار، تطرب نفسه لا شعورياً ويحسّ بالراحة والسعادة… فالبيئة تمنح الطفل انطباعات وصوراً ومشاعر وجدانية خاصة عن العالم المحيط به من سماء ونجوم وقمر وشمس وأشجار وبحار وأنهار وصحراء وجبال…، والبيئة الطبيعية تُساعد الطفل على استكشاف العديد من الأشياء ممّا يُساهم في تفتّح طاقاته ونمو قابلياته الذهنية والنفسية والمهاراتية…، بل البيئة تلعب هذا الدور بحقّ الراشدين. ومن هنا دعانا القرآن إلى التفكّر والنظر والتأمّل والتدبّر في الآيات الآفاقية المنتشرة في البيئة الطبيعية وذكر عدّة نماذج وأمثلة في هذا المجال، لما له من دور في تكوين عقائد واتّجاهات ومشاعر خاصة عند الإنسان، فالإنسان يتأثّر بالبيئة الطبيعية المحيطة به وينفعل عنها حتّى في أمزجته وطباعه وأنماط تفكيره ومشاعره النفسية. وقد نفهم هذا المعنى من تشبيه أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: “ألا وإنّ الشجرة البرية أصلب عوداً، والروائع الخضرة أرقّ جلوداً، والنباتات البدوية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً”19. ولكن هل هذا يعني أنّ الطفل ابن بيئته الطبيعية، بمعنى أنّها تُشكّل ملامح شخصيّته بنحو لا يكون فيها إلا عنصراً متأثّراً ومتلقيّاً ومنفعلاً؟
إنّ أزمة المدرسة الحتمية تكمن في اعتمادها نظرية العامل الواحد في تفسير علاقة البيئة الطبيعية بالإنسان، وهو التأثير الحتميّ والجبريّ، في حين أنّ هذه الأطروحة – التفسير على أساس العامل الواحد – ليست علمية في أيّ مجال من مجالات فهم الإنسان، لذا يذهب السيد محمد باقر الصدر إلى أنّ التصوّرات التي اعتمدت العامل الواحد في فهم الإنسان باءت بالفشل، كما حصل عند سيجموند فرويد من خلال نظرية الغريزة الجنسية، والماركسية في المادّية التاريخية… إلخ، ومن هذا الباب ينقض أيضاً على نظرية الحتمية الجغرافية، معتبراً أنّ “كلّ هذه المحاولات لا تتّفق مع الواقع، ولا يقرّها الإسلام، لأنّ كلّ واحد منها حاول أن يستوعب بعامل واحد تفسير الحياة الإنسانية كلّها”20.
فالملاحظة الأولى في نقد النظرية الحتمية، عدم منطقية وعلمية نظرية العامل الواحد في تفسير هوية الإنسان ونشاطاته. والملاحظة الثانية التي يُمكن تسجيلها أيضاً هو اختلاف المجتمعات المتشابهة في الظروف البيئية من حيث مناهج التفكير وأنماط الحياة والخصائص النفسية.
والملاحظة الثالثة أنّ الإنسان عنصر فاعل في البيئة ومؤثّر في الطبيعة، إلى درجة أنّ التطوّر العلمي والتقني منح الإنسان مساحة أكبر في مجال تسخير الطبيعة واستثمارها لصالح أهدافه.
والخلاصة أنّ الجغرافيا البيئية مؤثّرة نسبياً – بغضّ النظر عن نسبة التأثير كمّاً وكيفاً-، ولكن تأثير البيئة الجغرافية أولاً قابل للتغيير، وثانياً هو أقل بكثير من تأثير جملة عوامل أخرى متشابكة ومعقّدة ومتداخلة تلعب دوراً في رسم شخصيّة الطفل وهويّته، منها الوراثة، ومنها البيئة البشرية، ومنها التربية والتعليم، ومنها التفاعلات الداخلية في نفس الطفل مع الطبيعة والأفكار والأشياء والأشخاص… ومنها عوامل غيبية، حيث إنّ من أخطر المشكلات التي يواجهها الفكر الغربي هو عزل التربية الإلهية عن التدخّل في مسارات صناعة هويّة الطفل والإنسان.
ولذا، فإنّ تصنيف أجناس البشر على أساس العامل البيئيّ هو خطأ منهجيّ، لأنّ ما قد يعتقده علماء الاجتماع أو التربية أنّه نتيجة العامل البيئيّ قد يكون نتيجة جملة هذه العوامل الأخرى التي تُشكّل مجتمعة المقتض أو العلّة لتشكّل هويّة أبناء المجتمع بنحو مشترك من حيث الطباع والأمزجة والأفكار والمشاعر والتصوّرات، خصوصاً أنّه لا يمكن عزل تلك العوامل لدراسة البيئة كمتغيّر مستقلّ دالّ في المعادلة، لأنّ العوامل الأخرى تلعب دوراً أهمّ في عملية تشكيل الهويّة، فكيف يُمكن عزل عامل تأثير البيئة البشرية مثلاً، أي مجموع الموروثات الثقافية والمشاعر والتصوّرات والعادات والتقاليد المشتركة التي تنتقل إلى الأجيال عن طريق التنشئة الاجتماعية، فتوجد اشتراكاً فيما يعتقد أنّه صنيعة البيئة الطبيعية؟!
* المنهج الجديد في تربية الطفل، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
- يراجع: لسان العرب، ج1، ص39، مادة بوأ.
- أنظر حول التعريفات المختلفة: عطية، ممدوح حامد، إنهم يقتلون البيئة، ص17-18.
- يراجع: فلسفي، محمد تقي، الطفل بين الوراثة والتربية، ج1، ص196.
- نهج البلاغة، من وصية له لولده الحسن.
- التربية وأصولها الثقافية والاجتماعية، ص 124.
- من لا يحضره الفقيه، ج2، ص49، ح1668.
- الكافي، ج6، ص47.
- سورة البقرة، الآية 170.
- سورة الزخرف، الآية 23.
- اليزدي، محمد تقي مصباح، النظرة القرآنية للمجتمع والتاريخ، ص49.
- يراجع: النظرة القرآنية للمجتمع والتاريخ، ص57-58.
- من لا يحضره الفقيه، كتاب الفرائض، باب النوادر، ح5764، ص784، فقرة14.
- الكافي، ج6، ص48.
- م.ن، ج5، ص332.
- م.ن، ص554.
- الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، إحياء علوم الدين، ج8، ص130. والمحجة البيضاء في تهذيب الأحياء، ج5، ص124.
- يراجع: اليزدي، محمد تقي مصباح، النظرة القرآنية للمجتمع والتاريخ، ص207-208.
- يراجع: وهيبة، عبد الفتاح محمّد، جغرافية الإنسان، وإدمون ديمولان، كيف خلق الطريق النمط الاجتماعي.
- نهج البلاغة، ج3، ص72.
- يراجع: الصدر، محمد باقر، اقتصادنا، ص55.