يقول ابن منظور: “ولمّا خرج الحسين (عليه السّلام) وبلغ يزيد خروجه كتب إلى عبيد الله بن زياد عامله على العراق يأمره بمحاربته وحمله إليه إن ظفر به فوجّه اللعين عبيد الله الجيش إلى الحسين (عليه السّلام) مع عمر بن سعد. وعدل الحسين إلى كربلاء، فلقيه عمر هناك فاقتتلوا، فقُتل الحسين (رضوان الله عليه ورحمته وبركاته)، ولعنة الله على قاتليه. وكان قتله في العاشر من المحرّم سنة إحدى وستّين، يوم عاشوراء”[1].
وهو يومٌ عظيم في تاريخ المسلمين، وهو على آل الرسول (صلّى الله عليه وآله) أليم.
أمّا عظمتهُ فهي من أجل اقترانه بالحسين (عليه السّلام)، ذلك الإمام العظيم الذي مثّل الرسول (صلّى الله عليه وآله) في شخصه، لكونه سبطه الوحيد ذلك اليوم، ولكونه كبير أهل بيته، وخامس أهل الكساء المطهَّرين من عترته، والذي مثّل الرسالة في علمها وسموّها وخلودها.
فكانتْ معركة عاشوراء معركة الإيمان الذي مثله الحسين (عليه السّلام)، والكفر الذي حاربه، ومعركة الحقّ الذي تجسّد في الحسين (عليه السّلام)، والباطل الذي قاومه، ويعني ذلك أنّه قد تكرّرت في هذا اليوم معارك الأنبياء (عليهم السّلام) ومشاهد الصالحين عَبْرَ التاريخ، وبخاصّة مغازي النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله) في بدر وأُحُد والأحزاب وغيرها، ومشاهد عليّ (عليه السّلام) في الجمل وصفّين والنهروان.
فكلّ الأنبياء والأئمّة والأولياء والصالحين، والشهداء والمجاهدين يشتركون بأهدافهم وآمالهم وبدمائهم، وتشخَص أعينُهم على نتائج المعركة في عاشوراء.
وكلّ جهود الكفر والنفاق والفجور والفسق والرذيلة والخيانة، والجهل والغرور والإلحاد تركّزت في جيش بني أُميّة، تُحاول أن تنتقم لكلّ تاريخها الأسود من هذه الكوكبة التي تدور حول الحسين (عليه السّلام) يريدون ليُطفئوا نور الله بسيوفهم وأسنّة رماحهم! وأمّا ألَم عاشوراء الذي أقرح جفونَ أهل البيت، وأسبل دموعَهم، وأورثهم حُزْناً، فهو من التوحُّش الذي أبداه الأعداء مع تلك الأبدان الطاهرة! ومن الظلم الذي جرى على ممثّل الرسول والرسالة في وَضَح النهار المضيئ، وأمام أعين الأُمّة المدّعية للإسلام، من دون نكير، بل استهلّوا فرحاً بالتهليل والتكبير!
وما أفظع الظلم والقهر والألم بأنْ يُعتدى على ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وعلى يد أُمّته، من المسلمين كما يتظاهرون، ومن العرب كما يزعمون، وبأمر من الخلفاء والولاة كما يدّعون!
إنّها الردّةُ الحقيقيّةُ لا عن الإسلام فحسب، بل عن كلّ دين مزعوم، وعن كلّ معنىً والتزام إنساني، أو قومي، أو وطني، أو انتماء طائفي، أو تبعية، أو أي معنىً آخر معقول.
بل ليس ما جرى في يوم عاشوراء قابلاً للتفسير إلاّ على أساس الجاهليّة والعمى، والغَباء والغرور، والغطرسة والحماقة، وحُبّ سفك الدم الطاهر، وروح الاعتداء والانتقام، والرذالة والخسّة، والعناد للحقّ الظاهر، وركوب الرأس، والعنجهية، وخُسران الدنيا والآخرة.
فحقّاً كانت معركةُ عاشوراء معركة الفضيلة كلّها ضدّ الرَذيلة كلّها.
لكن لم ينته الظلم على آل محمّد (عليهم السّلام) بانتهاء عاشوراء، بل امتدّ مدى التاريخ الظالم، على يد حكّامه، وعلى يد كُتّابه، وعلى يد الأشرار الّذين ناصبوا آل محمّد (عليهم السّلام) العداءَ والبغضَ والكراهيةَ، وورثوا كلّ ذلك من أسلافهم الّذين صنعوا مأساة عاشوراء.
أليس من الظلم البيّن والخيانة المفضوحة أن يُفْصَل «يوم عاشوراء» ومجرياته التاريخية عن تاريخ الإمام الحسين (عليه السّلام)؟!
هذا الذي وقع فعلاً في كتاب «تاريخ دمشق» لابن عساكر!
ونحنُ نربأ بابن عساكر نفسه، ذلك المؤرّخ الشهير، أن يكون قد أغفلَ ذكر أحداث كربلاء ويوم عاشوراء بالذات عن تاريخه الكبير، إذ لا يخفى عليه أنّ تاريخ الحسين (عليه السّلام) إنّما يتركّز في عاشوراء، ويعلم أنّ مثل ذلك العمل سيؤدّي إلى أنْ يُنتقد بلا ريب من قبل المؤرّخين، والفضلاء والنبلاء.
لكنّ يداً آثمة امتدّتْ إلى هذا الكتاب العظيم لتفرغه من ذكر أحداث «يوم عاشوراء» إذْ ليس في ذكر تلك الأحداث إلاّ ما يَكشف عن مدى الألم والظلم والاعتداء الذي جرى على أهل البيت، ممّا لا يمكن إنكارهُ ولا دفعُه ولا توجيهُه ولا تفسيرهُ إلاّ على أساس ما قُلنا!
وتلك اليد الآثمة الخائنة للعلم والتراث تريد أن تبرّئ ساحة بني أُميّة ـ أسلافها ـ من الجرائم المرتكبة يومذاك، تلك الجرائم السوداء البشعة التي لم يغسل عارَها مرورُ الأيّام ولا ينمحي بحذف هذه الأحاديث من هذه النسخة أو تلك.
ولئن امتدّت يدُ الخيانة إلى تاريخ ابن عساكر فحذفتْ منه حوادث يوم عاشوراء، فإنّ مؤرّخي الإسلام ومؤلّفي المسلمين قد أفعموا كتب التاريخ بذكر تلك الحوادث، وجاء ذكر ذلك في العديد من الكتب التاريخية واُلّف لذلك خاصةً ما يسمّى بكتب «المقاتل».
ولعلّ نسخةً من أصل تاريخ ابن عساكر توجدُ هنا أو هناك فيعرفها مطّلعٌ، أو يطّلع عليها منصِفٌ فيُخرجها إلى النور، فيَبْهَتُ الخائنون الّذين ظلموا الإسلام، وظلموا آل محمّد، وظلموا التاريخ، وظلموا التراث، وظلموا المسلمين بالتعتيم عليهم وكتمان ما جرى على أرض الواقع عنهم.
كما فعلوا مثل هذا الحذف والتحريف في كثير من كتب التراث والحديث والدين، فأبادوها بالدفن والإماثة بالماء، والإحراق[2].
ولكنّ الحقائق وإنْ خالوها تخفى على الناس فإنّها لا بُدّ وأن تُعْلَم مهما طال الزمن[3].
الحسين (عليه السلام): سماته وسيرته، السيد محمد رضا الحسيني الجلالي
[1] مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 145. [2] اقرأ عن ذلك: «تدوين السنة الشريفة» للمؤلّف. [3] مثل الطبقات الكبرى لابن سعد كاتب الواقدي، فإنّه ذكر في ترجمة الإمام الحسين (عليه السّلام)