ما معنى أنه تعالى حيٌّ وقيوم؟
شبكة المعارف الإسلامية بتصرف
قال تعالى: ﴿اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: 255].
في التعبير السائد، نقول للكائن إنّه حيٌّ إذا كان يتَّصف بالنموّ والتغذية والتكاثر والجذب والدفع، وقد يتَّصف بالحسّ والحركة. ولكن لا بدَّ من الانتباه إلى أنّ بعضاً من السذّج قد يحسبون حياة الله شبيهة بهذه، مع علمنا بأنّه لا يتّصف بأيّة واحدة من هذه الصفات. هذا هو القياس الذي يوقع الإنسان في أخطاء في حقل معرفة الله، حين يقيس صفات الله بصفاته.
«الحياة» بمعناها الواسع الحقيقي هي العلم والقدرة، وعليه، فإنّ من يملك العلم والقدرة اللامتناهيتين يملك الحياة الكاملة.
حياة الله هي مجموعة علمه وقدرته، وفي الواقع، بالعلم والقدرة يمكن التمييز بين الحيّ وغير الحيّ. أمّا النموّ والحركة والتغذية والتكاثر، فهي صفات كائنات ناقصة ومحدودة، فهي تكمل نقصها بالتغذية والتكاثر والحركة، أمّا الذي لا نقص فيه، فلا يمكن أن يتّصف بمثل هذه الصفات.
«القيوم» صيغة مبالغة من القيام. لذلك، فالكلمة تدلّ على الموجود الذي قيامه بذاته، وقيام كلّ الكائنات بوجوده. وبعباره أخرى: جميع كائنات العالم تستند إليه.
بديهيّ أنّ القيام، كما هو الشائع في الكلام اليوميّ، هو الوقوف وبالهيئة المعروفة، ولكن بما أنّ هذا المعنى لا يتّفق مع الله المنزّه عن الصفات الجسمية، لذلك فالمقصود به هو القيام بالخلق والتدبير والتعهّد، فإنّه هو الذي خلق المخلوقات كلّها، وتعهّد بتدبيرها وتربيتها وإدامتها، ولن يغفل عنها لحظةً واحدة، فهو قائم دائماً وأبداً وباستمرار دون توقّف.
ويتّضح من هذا، أنّ «قيّوم» هي في الواقع أساس كلّ صفات الفعل، وهي الصفات التي تبيّن علاقة الله بالموجودات، مثل الخالق، الرزاق، الهادي، المحيي، وأمثالها..
فالقيام بالخلق وتدبير أُمور العالم يشمل كلّ هذه الأُمور، فهو الذي يرزق، وهو الذي يحيي، وهو الذي يميت، وهو الذي يهدي. وعليه، فإنّ صفات الخالق والرازق والهادي والمحيي وأمثالها تتجمّع كلّها في «القيّوم».
ومن هنا، يتّضح أن تحديد البعض لمفهوم هذه الجملة بالقيام بأمر الخلقة، أو القيام بأمر الرّزق وأمثال ذلك، هو في الواقع إشارة إلى أحد مصاديق القيام، في حين أنّ مفهومه واسع ويشمل كلّ ذلك، لأنّ مفهومه، كما قلنا، يُعطي معنى القائم بالذّات، وغيره متقوّم به ومحتاج له. وفي الحقيقة، أنّ (الحيّ) يشمل جميع الصّفات الإلهيّة، كالعلم والقدرة والسّميع والبصير وأمثال ذلك، و(القيّوم) تتحدّث عن احتياج جميع المخلوقات إليه، ولذا قيل إنّ الاسم الأعظم الإلهي هو مجموع هاتين الصّفتين .ثمّ تضيف الآية ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾.
(سنةٌ) من مادّة (وَسَنَ)، وتعني كما يقول كثير من المفسِّرين، أنّها الإغفاءة والاسترخاء الّذي يكون في بداية النوم. وبعبارة أخرى، أنّه النّوم الخفيف، و(نوم) يعني الحالة الّتي تركد فيها بعض حواسّ الإنسان المهمّة. وفي الواقع، أنّ (سنة) عبارة عن النوم العارض للعين، ولكن عندما يتوغّل كثيراً في الإنسان، ويتعمَّق ويعرض على العقل، فيقال له (نوم). وجملة ﴿لا تأخذُهُ سِنةٌ ولا نوم﴾، هي في الواقع تأكيدٌ لصفة القيّوم التي يوصف بها الله، لأنَّ القيام الكامل والمطلق بتدبير عالم الوجود، يتطلّب عدم إغفال ذلك حتّى للحظة واحدة، أي أنّ الله لا يغفل طرفة عين عن حكمه المطلق على عالم الوجود وإدارته.
لذلك، فكلّ صفة لا تتفق مع قيّومية الله، تنتفي من ساحة قدس الله تلقائياً، بل إنّ ذاته منزّهة حتّى عن أتفه عامل يمكن أن يؤدّي إلى أيّ تهاون في عمله، مثل «السِّنَة».
أمّا سبب تقديم «السِّنَة» على «النوم» في الآية، مع أنّ القويّ يُذكر عادةً قبل الضعيف، فيعود إلى التتالي الطبيعي في عملية النوم، إذ تنتاب المرء «السِّنَة» أوّلاً، ثمّ تزداد عمقاً حتّى تورده في النوم العميق. وتشير هذه الآية إلى حقيقة استمرار فيض اللّطف الإلهيّ وديمومته وعدم انقطاعه عن وجوده لحظة واحدة، فهو ليس كعبادة الّذين يغفلون عن الآخرين بسبب النوم أو أيّ عامل آخر.
يلاحظ أنّ تعبير (لا تأخذه) تعبير رائع يؤدّي الغرض بدقّة، وهو يصوّر استيلاء النوم على الإنسان تصويراً مجسّداً، وكأنَّ النوم كائن قويّ ذو مخالب تمسك بالإنسان بقوّة وتأسره، إنّ ضعف أقوى الناس أمام سلطان النوم أمر لا اختلاف فيه.
مالكيّة الله المطلقة ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، لا يكون هناك قيام بشؤون العالم بغير ملكية السماوات والأرض وما فيها. لذلك، فهذه الآية ـ بعد ذكر قيّومية الله ـ تشير إلى حقيقة كون العالم كلّه ملكاً خاصّاً لله، وأنّ كلّ تصرّف يحدث فيه فبأمر منه.
وعليه، فإنّ الإنسان ليس المالك الحقيقي لما عنده ولما يقع تحت تصرّفه، بل إنّه يتصرّف فيه لمدّة محدودة ووفق شروط معيّنة قرّرها المالك الحقيقي. لذلك، فعلى هؤلاء المالكين المؤقّتين أن يلتزموا تمام الالتزام بالشروط التي وصفها المالك الحقيقي، وإلاَّ فإنَّ مالكيّتهم المؤقّتة هذه تصبح باطلة وتصرّفهم غير جائز.
الشروط المطلوبة للتصرّف بملك الله هي التي وردت في الشرع وأبغت للناس.
من الواضح أنّ التقيّد بهذا يعتبر في الواقع عاملاً مهمّاً من عوامل التربية، إذا اعتقد الإنسان أنّه ليس المالك الحقيقيّ لما يملك، وإنما هو يتصرّف به لفترة قصيرة من الزّمن، فسيمتنع ـ دون شكّ ـ عن الاعتداء على حقوق الآخرين، وعن الحرص والطمع والاحتكار والبخل وأمثالها ممّا يتولّد في الإنسان نتيجة التصاقه بالدنيا، فيكون ذلك مدعاةً لتربيته تربية تجعله قانعاً بحقوقه المشروعة.
تفسير الأمثل – الشيخ ناصر مكارم الشيرازي