روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “… من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن سرّ مسلما ستره الله يوم القيامة”.
مدخل
الإسلام ليس منهج اعتقاد وإيمان في القلب فحسب، بل هو منهج حياة إنسانية واجتماعية واقعية، يتجسّد فيها الاعتقاد والإيمان ممارسة عملية في جميع جوانب الحياة ومتطلّباتها الفردية والاجتماعية، وذلك على مبدأ التراحم والتكافل والتناصح والمودّة والإحسان والتضحية والإيثار، قال الله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى﴾1، وهذا ما يلزم الأفراد بالكثير من الواجبات تجاه بعضهم بعضا كأفراد، وتجاه المجتمع ككيان اجتماعي يحتضن الجميع، من أهمّها خدمة الناس وقضاء حوائجهم.
قضاء حوائج الناس تكليف اجتماعي
لقد وضع الإسلام منهجاً متكاملاً في العلاقات بين البشر، يقوم على أساس مراعاة حقوق أفراد المجتمع وبثّ روح التعاون والخدمة المتبادلة بينهم، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾2، فالتقيّد بهذا الأمر الإلهي يعصم الإنسان عن التقصير في حقوق الناس، ويدفعه للعمل الدؤوب في خدمتهم، وأداء مسؤوليّته تجاههم، وقد حثّ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كلّ مسلم ليكون مسؤولاً في بيئته الاجتماعية، من خلال الاهتمام بأمور المسلمين ومشاركتهم في آمالهم وآلامهم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: “من أصبح لا يهتمّ بأُمور المسلمين فليس بمسلم”3، ودعا الإمام الصادق عليه السلام إلى الالتصاق بجماعة المسلمين، فقال: “من فارق جماعة المسلمين قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه”4.
قيمة قضاء حوائج المؤمنين وخدمتهم
من جملة ما يؤكّد الإسلام عليه في معرض التكافل الاجتماعي، هو ضرورة قضاء حوائج المؤمنين بعضهم لبعض. وهذا ما نفهمه بوضوح من الأخبار، فإنّ خدمة المؤمنين:
أ- تبيح الجنّة: ففي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: “أوحى الله عزّ وجلّ إلى داوود: إنّ العبد من عبادي ليأتيني بالحسنة فأبيحه جنّتي. فقال داوود: ياربّ وما تلك الحسنة؟ قال: يُدخل على عبدي المؤمن سرورا، ولو بتمرة. فقال داوود عليه السلام: حقٌّ لمن عرفك ألا يقطع رجاءه منك”5.
وعن الإمام الصادق عليه السلام: “إنّ الله تعالى خلق خلقاً من خلقه، انتجبهم لقضاء حوائج فقراء شيعتنا، ليثيبهم على ذلك الجنّة. فإنْ استطعت أن تكون منهم فكن”6.
ب- أحبّ الأعمال إلى الله تعالى: عن الإمام الصادق عليه السلام، عن أبيه، قال: “سُئِل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيّ الأعمال أحبّ إلى الله؟ قال: اتّباع سرور المسلم، قيل: يا رسول الله، وما تّباع سرور المسلم؟ قال: شبعة جوعه، وتنفيس كربته، وقضاء دينه”7.
ج- يبشّر المؤمن يوم القيامة: وعن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام، قال: “… إذا بعث الله المؤمن من قبره، خرج معه مثال يقدمه أمامه، فكلّما رأى المؤمن هولاً من أهوال يوم القيامة، قال له المثال: لا تجزع ولا تحزن، وأبشر بالسرور والكرامة من الله عزّ وجل، فما يزال يبشّره بالسرور والكرامة من الله سبحانه حتى يقف بين يدي الله عزّ وجلّ، ويحاسبه حساباً يسيراً، ويأمر به إلى الجنّة، والمثال أمامه، فيقول له المؤمن: رحمك الله! نِعَم الخارج معي من قبري، ما زلت تبشّرني بالسرور والكرامة من الله عزّ وجلّ حتى كان ما كان، فمن أنت؟ فيقول له المثال: أنا السرور الذي أدخلته على أخيك المؤمن في الدنيا، خلقني الله لأبشرك”8.
د- أفضل من العبادة: ورد في العديد من الروايات أنّ خدمة المؤمنين بعضهم، وتعاونهم وترابطهم المادّي والمعنوي أفضل من بعض العبادات المستحبّة، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، قال: “… لَقضاءُ حاجة امرئ مؤمن أفضل من حجّة وحجّة…” حتى عدّ عشر حجج9.
وروي عن ذي الخُلق العظيم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم قوله: “مَن قضى لأخيه المؤمن حاجة كان كمن عبد الله دهره”10.
فكم يكون سامياً ذلك المجتمع الذي يسعى، بل يهرع كلّ واحد لقضاء حوائج إخوانه بهذه الروحية العالية والنية الخالصة. ثمّ إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: “والله، لقضاء حاجة المؤمن خير من صيام شهر واعتكافه”11.
لا تفوّت فرصة خدمة الناس
ينبغي التعاون بين المؤمنين لتأسيس ثقافة تربوية تمكّن المؤمن من الاستعانة بأخيه المؤمن، إذ لا مانع من أن يطلب المؤمن العون والحاجة من أخيه، لقول الإمام الصادق عليه السلام: “إذا ضاق أحدكم فليُعلِمْ أخاه، ولا يعين على نفسه”12.
وليس ذلك منّة من المؤمن على أخيه المؤمن، بل هو من نوع توفيق المؤمن لخدمة المؤمنين، وهو ما نفهمه من رواية الإمام الصادق عليه السلام، حيث قال: “إنّ الرجل ليسألني الحاجة فأبادر بقضائها مخافة أن يستغني عنها فلا يجد لها موقعاً إذا جاءته”13.
وفي رواية عن إسماعيل بن عمار الصيرفي، قال: قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام: جُعلت فداك! المؤمن رحمة على المؤمن؟ قال: “نعم”، قلت: وكيف ذاك؟ قال عليه السلام: “أيّما مؤمن أتى أخاه في حاجة فإنّما ذلك رحمة من الله، ساقها إليه وسبّبها له، فإن قضى حاجته كان قد قبل الرحمة بقبولها، وإن ردّه عن حاجته، وهو يقدر على قضائها، فإنّما ردّ عن نفسه رحمة من الله عزّ وجلّ ساقها إليه وسبّبها له…”14.
فحينما يسألك شخص حاجته فبادر إلى قضائها ولا تماطل، فقد يتغيّر الوضع ويستغني عنها، فتفوتك بذلك فرصة عظيمة وأجر جزيل، رُوي عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: “من كان في حاجة أخيه المسلم كان الله في حاجته ما كان في حاجة أخيه”15.
جزاء خدمة الناس محفوظ عند الله
دعا القرآن الكريم جميع المسلمين إلى التمحور حول العمل الصالح، فالإسلام يعطي العمل الصالح القيمة الأساسية ويجعله محور التنافس في المجتمع. ففي أكثر من مئة وعشرين موضعاً، يؤكّد القرآن الحكيم على الربط العضوي بين الإيمان والعمل الصالح، ويصرّح بأنّ الذين يرثون الأرض هم الصالحون.
والصلاح ليس شيئاً جامداً، وإنّما هو حركة وعمل في الاتّجاه الصحيح. وهو ليس فقط في أمور الدين كالصلاة والصيام والزكاة والحج، وإنّما كلّ عمل يحكم العقل والدين بصلاحه، فخدمة الناس، وبناء المساكن صلاح، وتعبيد الشوارع صلاح، وإقامة المصانع صلاح، وزراعة الأرض صلاح، وكلّ ما كان من شأنه عمارة الأرض فهو عمل صالح.
ويؤكّد القرآن الحكيم على أنّ ما نعمله من خير وخدمة للناس، سنجده عند الله، يقول تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾16. فإنّ كلّ عمل نعمله في طريق الخير فهو لنا، حتى لو كان في مظهره من أجل الآخرين، لأنّنا حينما نعمل للآخرين، فإنّ هذا العمل سيتضاعف وتعود إلينا نتائجه من حيث نشعر أو لا نشعر، وفي آية أخرى يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرً﴾17، ويقول سبحانه: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾18.
إذاً، فإنّ أعمال الخير وأعمال الشرّ تبقى ولا تزول، وهي محور جزاء الإنسان في الدنيا والآخرة. ومن أجل أن يدفعك الإسلام إلى أن تجتهد في سبيل عمل الخير، ولا تدع عمل خير إلا وتقوم به، ولا تبقي من عمرك لحظة إلا وتعمّرها بعمل الخير، فإنّ القرآن يبيّن أنّه في يوم القيامة سيُنصب ميزان توضع في كفّة منه أعمال الإنسان الخيّرة وفي الكفة الأخرى أعماله الشريرة، وآنذاك يشعر الإنسان بقيمة حبّة الخردل من عمله، هذه الأعمال الصغيرة التي قد نستهين بها اليوم، إلاّ أنّنا نشعر بقيمتها غداً، ففي ذلك اليوم إذا رجحت كفّة الحسنات على كفّة السيئات، يحقّ لك أن تفتخر، أمّا اليوم وقبل أن تعرف مصيرك فلا تستطيع أن تقول شيئاً، يقول تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ﴾19.
الإمام الخميني وخدمة الناس
يقول الإمام الخميني قدس سره: “ولدي، ما دمنا عاجزين عن شكره وشكر نعمائه التي لا نهاية لها فما أفضل لنا من أن لا نغفل عن خدمة عباده، فخدمتهم خدمة للحقّ تعالى، فالجميع منه”.ولكن هذه الخدمة كي توصل إلى الله “علينا أن لا نرى أنفسنا أبداً دائنين لخلق الله عندما نخدمهم، بل هم الذين يمنّون علينا حقّاً، لكونهم وسيلة لخدمة الله جلّ وعلا”.
وتؤكّد الروايات عن المعصومين عليهم السلام أنّ الخدمة هي نعمة الله سبحانه وتعالى على عباده، وهي توفيق منه تعالى، فعن الإمام الحسين عليه السلام: “إنّ حوائج الناس إليكم من نِعم الله عليكم، فلا تملّوا النِعم، فتحوزوا نقما”20.
كلمة من القلب
اهتمّ يا أخي كثيراً بقضاء حوائج المسلمين، واسعَ لتحقيق ما يهمّهم. واعلم، إنّ أفضلَ القربات الى الله السعي في قضاء حوائج ذوي الحاجات، رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:“مَن مشى في حاجة أخيه ساعة من ليل أو نهار، قضاها أو لم يقضِها، كان خيراً له من اعتكاف شهرين”21، ورُوي عن وصيّه أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال لكميل بن زياد: “يا كميل، مُرْ أهلك أن يروحوا في كسب المكارم، ويُدلِجوا في حاجة مَن هو نائم، فوالذي وسع سمعه الأصوات، ما من أحد أودع قلباً سروراً إلاّ وخلق الله له من ذلك السرور لطفاً، فإذا نزلت به نائبة جرى إليها كالماء في انحداره حتّى يطردها عنه كما تُطرد غريبة الإبل”22.
واسعَ ما استطعتَ أن تُلقي السرورَ في قلوب المؤمنين، فإنّ ثواب ذلك لا يُحدُّ بحدٍّ، فإنّ إدخال السرور على قلب المؤمن خيرٌ من بناء بلد، روي عن مُسرِّ المؤمنين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم قوله: “إنّ أحبَّ الأعمال الى الله إدخال السرور على المؤمنين”23.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: “مَن سرَّ مؤمناً، فقد سرّني، ومن سرَّني فقد سرّ الله”24.
ولا تنسَ يا أخي المسلم إنّ: “أحبّ الناس إلى الله أنفعهم، وأحبّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعا. ولأَن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحبّ إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا، ومن كفّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضًى يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزلّ الأقدام…”25.
* كتاب أنوار الحياة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- سورة المائدة، الآية 2.
2- سورة النحل، الآية90.
3- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص163، باب الاهتمام بأمور المسلمين والنصيحة لهم ونفعهم، ح1.
4- م.ن، ج1، ص405، باب ما أمر النبي صلى الله عليه وآله بالنصيحة لائمة المسلمين، ح4.
5- م.ن، ج2، ص189، باب إدخال السرور على المؤمنين، ح5.
6- م.ن، ج2، ص193، باب قضاء حاجة المؤمن، ح2.
7- الحميري القمي، عبد الله بن جعفر، قرب الإسناد، تحقيق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، 1413هـ، ط1، ص145، ح522.
8- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص190، باب إدخال السرور على المؤمن، ح8.
9- الشيخ الصدوق، الأمالي، ص582، المجلس الرابع والسبعون، ح14.
10- م.ن، ص481، المجلس السابع عشر، ح20.
11- الحميري، قرب الإسناد، ص120، ح422.
12- الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام، تحقيق وتعليق: السيد حسن الموسوي الخرسان، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1365ش، ط4، ج6، ص329، باب المكاسب، ح31.
13- الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام، ج2، ص192، باب في ذكر أخلاق الرضا عليه السلام الكريمة ووصف عبادته، ح2.
14- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص193، باب قضاء حاجة المؤمن، ح5.
15- الشيخ الطوسي، الأمالي، ص97، المجلس الرابع، ح2.
16- سورة البقرة، الآية 110.
17- سورة آل عمران، الآية 30.
18- سورة الزلزلة، الآيتان 7-8.
19- سورة القارعة، الآيات 8-11.
20- الحلواني، الحسين بن محمد، نزهة الناظر وتنبيه الخاطر، تحقيق ونشر: مدرسة الإمام المهدي، قم، 1408هـ، ط1، ص81، ح6.
21- نهج البلاغة، حكمة 257.
22- م.ن، حكمة 257.
23- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص151، باب إدخال السرور على المؤمنين، ح4.
24- م.ن، ج2، ص150، باب إدخال السرور على المؤمنين، ح1.
25- الهيثمي، علي بن أبي بكر، مجمع الزوائد، بيروت، لبنان، دار الكتب العلمية، 1988م، لا. ط، ج8، ص191، باب فضل قضاء حوائج المؤمنين.