تذهب الماركسية في تعليلها لظهور الدين، إلى أن الدين من صنع الطبقات البرجوازية التي سيطرت على رؤوس الأموال، وامتلكت الأراضي ووسائل الانتاج واتخذت من الدين وسيلة لتخدير العمال والفلاحين، لئلا يقوموا بثورات تحررية ضدهم.
فالدين وليد حاجة الطبقة البرجوازية وذلك للإبقاء على الفوارق الطبقية في المجتمع عن طريق خداع الكادحين بجرعات الأمل الكاذب، واليأس من السعادة في هذه الدنيا، من خلال شدّهم إلى عالم الوهم والخيال، وهو عالم الآخرة.
يقول ماركس: (إن التعاسة الدينية، في الوقت الذي تكشف فيه عن التعاسة الحقيقية، بمثابة اعتراض على هذه التعاسة، الدين عبارة عن أنين كائن بائس، وقلب عالم قاسٍ، وروح وجود لا روح فيه، الدين أفيون الشعوب.
إن اختفاء الدين الذي هو بمثابة سعادة الناس الوهمية، يعتبر من مقتضيات سعادتهم، إننا نريد أن نهبَ الناس سعادة حقيقية، فلا بدَّ من أخذ هذه السعادة الوهمية منهم،… وعليه فإن انتقاد الدين يعني ـ حتماً ـ
إنتقاد بحار الدموع الّتي يؤلف الدين هالة حولها. انتقاد الدين، يخرج الإنسان من الخطأ، لكي يستطيع أن يفكر كإنسان أدرك خطأه، وأصبح متمسكاً في عقله، فيعمل وفق ذلك، ويخلق واقعه، لكي يدور حول الشمس الحقيقية، أي حول نفسه)[1].
مناقشة النظرية:
إن خواء وهزل هذه النظرية واضحٌ كلَّ الوضوح، حيث اعتبر ماركس أن الدين عبارة عن مخدر للشعوب المستضعفة، وهو من صنع طبقة تتحكم برؤوس الأموال، وتسيطر على مقدرات الشعوب، وهي الطبقة البرجوازية، فمن خلال الدين – المخدر- يستطيع أبناء هذه الطبقة المحافظة على عروشهم، ومصّ النقمة الجماهيرية الرافضة للاستعباد.
ولا أدري كيف غفل ـ أو تغافل ـ ماركس عن حقائق مهمة قبل طرح هذه النظرية، وكيف ساوى بين جميع الأديان بهذه التهمة القاسية؟! وللجواب على هذا الرأي نقول:
1 ـ إن الدين كما هو ثابت في علوم الآثار والانثروبولوجيا متأصّلٌ في الوجود الإنساني، وقد أظهرت الآثار الصحيحة للحضارات البالية، وتلك النقوش التي وجدت على جدران الكهوف، بما لا يقبل الشكّ، وجود الدين والتدين منذ أقدم العصور، وحتّى الشيوعية الأولية أو الأُولى ـ على حد تعبير الماركسيين ـ قبل أن يكون هناك أصحاب رؤوس أموال أو برجوازيين، وقبل أن تكون هناك طبقة البروليتاريا الثائرة في وجوههم.
فهل لماركس والماركسيين، أن يوضّحوا لنا سبب وجود ظاهرة التدين في ذلك العصر؟! ولكنهم لا يستطيعون الإجابة على مثل هذا السؤال، فليس أمامهم خيار إلاّ التخلّي عن هذا الرأي، الذي خدعوا به الناس عشرات السنين، حتّى بان وهنه (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ)[2] أو أن يتغافلوا عن هذه الحقيقة ويخادعون أنفسهم، وهكذا فعلوا!!
2 ـ ونحن نسأل ثانياً، هل إنَّ كل الأديان كانت تخدّر أتباعها عن القيام بالثورات التحررية، وتمنعهم عن التصدي للظلمة، والمستغلين، وتُمنّيهِمْ وتبشّرهم بجنات النعيم ؟… عوضاً عن العذاب الذي يلاقونه في هذه الدنيا، وتلقّنهم أن من الواجب عليهم الصبر والتحمل، والرضوخ لقضاء الله وقدره، لأنّه خلقهم للسعادة والنعيم في الحياة الآخروية.
إن مشكلة هؤلاء وأمثالهم هي التغاضي والاعراض عن الحقائق الموضوعية، وإلاّ ألا يتسنّى لماركس وأتباعه، الاطلاع على تعاليم الإسلام الّتي أشرقت الأرض بنورها، والّتي صنعت حضارة تعتزّ الإنسانية بها؟! علماً أنَّ أساس تلك الحضارة والرقي في كافة الأصعدة ليس إلاّ الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فالإسلام لا يقبل بالخنوع والخضوع والتذلل للظلمة وأعوانهم، بل يضرب بيدٍ من حديد كلّ الأصنام الّتي تريد من الناس أن يكونوا عبيداً لها، فهذا رسول الإسلام (ص) يقوم بنفسه بمقاتلة الكفرة والظالمين، حتّى ربتْ غزواته على السبعين، وتُوّج ذلك بالنصر المؤزّر على كل اُولئك الطغاة، مع العلم بأن الذين حاربوه لم يحاربوه من أجل الدين بما هو دين وإنّما بسبب كون الدين الإسلامي يساوي بين السيد والعبد، والفقير والغني، فما زال شعاره « كلكم لآدم وآدم من تراب » و«المسلمون سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على أعجمي إلاّ بالتقوى »، ونفس المبدأ سار عليه أصحابه من بعده، حتّى فتحوا الحصون والدول، فانتشر الإسلام في بقاع الأرض بتعاليمه النيرة، حتّى بلغ الشرق والغرب.
فالإسلام يحرّم القعود والخنوع والتميّع، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)[3]. وقال تعالى: (إِنَّ اللهَ اشْتَرَىٰ مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ…)[4]. وقال تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)[5].
إنّ الإسلام على خلاف أغلب الأديان ـ إذا لم نقل كلها ـ يجعل التقاعس عن مقارعة الظالمين إثماً ووزراً يعاقب عليه أتباعه، قال تعالى: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)[6].
أما الأحاديث والروايات الصادرة عن النبي (ص) وأهل بيته: ، فإنها تشدّد على وجوب الجهاد وحرمة تركه بشكل كبير. نأتي منها بهذا الحديث:
1 ـ عن أبي عبدالرحمن السلمي، قال: قال أمير المؤمنين (ع): «أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه » ـ إلى ان قال ـ: «هو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنّته الوثيقة، فمن تركه ألبسه الله ثوب الذُلّ، وشمله البلاء…»[7].
وهكذا نجد أن النصوص الإسلامية طافحة في الحثّ على الجهاد، وعدم القعود والتقاعس، بل ان بعض النصوص تؤكّد أنّه يجب أن يدافع الإنسان بكلّ قوته عن ماله وأهله[8]. فضلاً عن عرضه ووطنه وعزّته.
فالإسلام ليس أفيون الشعوب، بل نراه يحثّ على الثورة والمجاهدة، ففي نظر الإسلام أنّ الإنسان إذا تسلط على الغير بالقوة، وفرض سيطرته على الآخرين بالقهر، فذلك هو «الطاغوت» الذي لا بدّ من إشعال الثورة ضده، حتّى يتم تحطيمه وأسقاطه، فالطاغوت هو من يطغى بنفسه مستكبراً على سنّة ربِّه، ويريد هو وحفنة من أمثاله أن يفرضوا على الناس طاعتهم، ويسلّموا مصيرهم إليهم. فعندما يكون في المجتمع شخص أو فئة من هذا القبيل فالإسلام يأمر أتباعهُ حينئذٍ بمحاربته ومقاومته بكلّ ما أُوتوا من قوة، قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)[9]. وقال تعالى: (فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ)[10].
إذاً الإيمان بالله وحده غير كافٍ أبداً في نظر الإسلام، بل لا بد أن يقترن بالكفر بالطاغوت، بل الكفر بالطاغوت يكون مقدمة للإيمان بالله تعالى، لأنّ من الواجب أوّلاً إزالة الأسباب الّتي تؤدي إلى الكفر، ثمّ بناء أساس الإيمان والتقوى.
فهل يصحّ بعد هذا كلّه لماركس أن يقول: (إن الدين الإسلامي أفيون الشعوب) نعم المسيحية الكنسية واليهودية المحرفة قد يكونا أفيون الشعوب، فإنّ تلكما الديانتين الّتي عاش ماركس في وسطهما، وارتضع من ثدييهما، تدعوان أتباعهما إلى الخضوع والذلة، إلى درجة لا تجعل للكرامة الإنسانية أي مكان فيهما، فقد جاء في إنجيل متى (أما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشرير، بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر).
وتجد في بعض النصوص أنهم يذهبون إلى الحرمة القطعية للثورة والنضال، فقد جاء في أناجيلهم المحرّفة ادعاؤهم أن عيسى (ع) قال للقديس بطرس: (أعد سيفك إلى مكانه، لأنّ كل الذين يأخذون السيف بالسيوف يهلكون) بينما نرى الإسلام على عكس ذلك، حيث يقول: (فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ)[11] وهذا تأريخ الإسلام والمسلمين زاخر بالحروب والثورات الجهادية، حتّى أتُهِم الإسلام بأنّه ما قام إلاّ بالسيف، وأنّه دموي النزعة، ولا يوجد مصداق أوضح من ثورة الإمام الحسين (ع) الّتي سطّر فيها هو وأهل بيته وأصحابه، على قلّة العدد وخذلان الناصر، أروع صور البطولة والفداء والثورة والرفض للطغاة.
والعجيب أن هؤلاء يناقضون أنفسهم، فبينما يتهمون الدين بأنّه أفيون الشعوب، يصرّحون بأن الإسلام قوة ثورية في وجه الطغاة، فقد زار خروشوف، أحد القادة الشيوعيين في دولة الاتحاد السوفيتي، الجزائر يوماً، وقابل (بن بلاّ) فشرح له بن بلاّ مكانة الإسلام في هذه المنطقة من العالم، وكيف استطاع أن يحرّر المسلمين بفضل تعاليمه من الاستعمار الفرنسي، فقال خروشوف: (نعم إنّ الإسلام في هذه المنطقة يمثّل قوةً ثورية)[12].
وهكذا نرى وهن هذه النظرية، التي لم تقم على أساسٍ موضوعي، لذلك فهي لا تصلح أبداً لتفسير نشوء ظاهرة الدين والتدين في حياة الإنسانية.
المصدر: النزعة الدينية بين الإلهيين والماديين
[1] الفطرة / المطهري: 164، دور الدين في حياة الانسان / الآصفي: 2.
[2] سورة العنكبوت: 29 / 41.
[3] سورة النساء: 4 / 97.
[4] سورة التوبة: 9 / 111.
[5] سورة الحج: 22 / 39.
[6] سورة هود: 11 / 113.
[7] المصدر السابق 15: 14.
[8] الوسائل / الحر العاملي 15: 141.
[9] سورة النحل: 16 / 36.
[10] سورة البقرة: 2 / 256.
[11] سورة البقرة: 2 / 194.
[12] كتاب الفطرة: 163.