تمهيد إنّ تسليط الضوء على طبيعة الطفل وحقيقة فطرته يُعتبر من الأبحاث المهمّة من حيث الجواب عن السؤالين البنيويّين التاليين:
السؤال الأوّل: ما هي طبيعة التركيبة الفطرية للطفل بأصل الخلقة، هل هي طبيعة شرّيرة أم خيّرة أم حيادية؟ حيث إنّ تحديد الجواب عن هذا السؤال بأيّ من الافتراضات السابقة يُغيّر من المسار في كيفية تربية الطفل.
السؤال الثاني: هل طبيعة الطفل وفطرته ثابتة غير قابلة للتغيير أم أنّها تتبدّل من حال إلى حال؟ وبعبارة أخرى: هل الطفل الذي يولد شرّيراً بطبعه – بحسب بعض النظريات – يستحيل تغييره بالتربية أم يُمكن تغييره؟ لأنّه إذا كان الجواب بأنّ شخصية الطفل ثابتة لا تتحوّل فهذا يعني عبثية التربية للطفل.
في الجواب عن السؤال الأول يُمكن رصد ثلاث نظريات1:
النظرية الأولى: شريّة طبيعة الطفل يرى أصحاب هذه النظرية أنّ طبيعة الطفل تميل إلى الأخلاق الذميمة، بمعنى أنّ نفس الطفل جُبلت بأصل الخلقة على الشرّ، وعُجنت طينته بالرذيلة والأطباع الخبيثة والسيّئة، فـ “الشرّ جزء من تكوينه النفسيّ، وبه يندفع إلى العدوان والانحراف. وقد عبّر عن هذه النظرة المتشائمة بعض رجال الدين المسيحي”2. ويترتّب على هذه النظرية أن “تقوم التربية باستخدام وسائل العنف والقسوة لانتزاع الشرّ منه”3.
النظرية الثانية: حيادية طبيعة الطفل ترى هذه النظرية أنّ الطفل يميل بنحو متساوٍ إلى الخير والشرّ، وبعبارة أخرى إنّ نفس الطفل “من طبيعة محايدة، وإنّما يلحق الفساد بهذه الطبيعة نتيجة لفساد التربية التي يتلقّاها”4. يقول سعيد إسماعيل علي في هذا السياق: “الإشكالية التي شُغل بها الفكر الفلسفيّ والتربويّ والأخلاقيّ من حيث التساؤل عمّا إذا كان الإنسان بطبعه خيّراً أو شرّيراً هي إشكالية زائفة، ذلك أنّ الطبيعة الفطرية للإنسان محايدة، صفحة بيضاء، مثلها مثل المادّة الخام”5.
النظرية الثالثة: خيرية فطرة الطفل يعتقد أصحاب هذه النظرية بعكس النظرية الأولى، أنّ طبيعة الطفل وفطرته جُبلت على حبّ الخير، فهو يميل إلى الخير والصلاح بأصل الخلقة.
وقفة مع النظريّات الثلاث سنُحاول في هذه الفقرة التوقّف عند بعض النقاط التي ستُمهّد الطريق لتبنّي الرأي الذي نراه أقرب للصواب من ضمن النظريّات السابقة في الجواب عن السؤال الأول، وسيتّضح بنحو جليّ أيضاً موقفنا من الجواب عن السؤال الثاني خلالها بالتبع.
أولاً: لا ريب في أنّ الطفل في مراحل الطفولة المبكرة وما قبل سنّ التمييز، لا يعرف معنى الخير أو الشر، فإن سُلّم جدلاً بميل طبيعة الطفل نحو أيٍّ منهما فهو ميل فطريّ جبلّيّ غير واعٍ.
ثانياً: لا يُمكن إنكار وجود ردّات فعل طبيعية في الطفل بأصل الخلقة هدته إليها يد الله تعالى، والمقصود بها السلوكات الصادرة عن الغريزة والتي تُسبّبها القوى الطبيعية (الشهوية والغضبية) المجبول عليها الإنسان بأصل الفطرة، كالخوف أو الحبّ… إلخ. ولكن يُطرح السؤال: هل ردّات الفعل النفسانية الطبيعية هذه هي خير أم شرّ أم حيادية؟
في الحقيقة، إنّ النظر إلى ردّات الفعل هذه بلحاظ القوى النفسية الناشئة منها أي بالنظر إلى نفس القوّة الشهوية أو الغضبية لا بدّ من أن يدخل في دائرة الحسن والخير، لأنّ الله تعالى لا يخلق إلّا ما هو حسن جميل، يقول تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾6، فهذه القوى النفسية تعمل بأصل الفطرة بحسب ما يقتضيه طبعها المسخّرة له، إنّما تكمن المشكلة في كيفية توظيف هذه القوى النفسية وتسييرها في أيّ اتّجاه.
وبناءً عليه، وظيفة التربية ليست استئصال هذه الغرائز والانفعالات والأحاسيس النفسية واقتلاعها من جذورها، لأنّ ذلك مستحيل، فكلّ ما زرعته يد الله تعالى بأصل الخلقة يستحيل استئصاله، نعم، يُمكن التعمية عليه ودسّه ودفنه في دائرة الظلمة. فلا يُمكن للتربية إزالة فطرة حبّ الأنا من نفس الطفل، ولا استئصال القوة الداخلية المحرّكة له نحو الحبّ أو البغض أو الخوف أو الحياء أو… بل هو إيجاد حالة من التحكّم والقيادة والسيطرة على هذه الانفعالات بنحو ينضبط السلوك على ضوء التعاليم التربوية الحسنة والجميلة، لذا يُقال بأنّ التربية وظيفتها الدفع وليس الرفع والاستئصال7.
فليس من المعقول تربية الطفل بالطلب منه أن لا يغضب أو لا يشتهي بعض الأشياء، فإنّ هذه الحالات النفسانية أمور طبيعية في ذات فطرته غير قابلة للإزالة، وإنّما المطلوب هو ضبطها وتوجيهها وإرشادها، لا قمعها وكبتها. وإذا أردت أن تُطاع فاطلب المستطاع.
ثالثاً: إذا كان المقصود بميل الطفل نحو الخير أو الشرّ بأصل الخلقة هو ذلك النحو من الميل الفطري الجبري الذي يُمانع الاختيار وإمكانية التغيير، فهذا ممّا لا يُمكن قبوله انطلاقاً من عقيدتنا بأنّ الإنسان كائن حرّ مختار، لذا لا بد من البحث عن الميل الفطري نحو الخير أو الشرّ بمعنى يُحافظ على اختيارية الطفل وإمكانية التغيير. لأنّنا نُنكر صحّة نظرية المذهب الطبيعيّ في الأخلاق، التي تعتقد بأنّ الملكات الأخلاقية في الطفل وبالتّالي السلوك الصادر عنها طبيعيّ بأصل خلقته، بمعنى أنّ كلّ طفل يولد مزوّداً بأخلاق تقتضيها طبيعة هويّته على نحو الضرورة، وبالتّالي فإنّ هذه الأخلاق الطبيعية ثابتة وغير قابلة للتغيير والتبديل، ويترتّب على ذلك عدم جدوائية وفعالية العمليات التربوية التي تهدف إلى إكساب الطفل ملكات أخلاقية وسلوكات على خلاف مقتضى طبيعته.
وقد ناقش فلاسفة الأخلاق المسلمون كمسكويه، الغزالي، الطوسي، الكاشاني، والنراقي، وغيرهم هذا المذهب في كتبهم بنحو تفصيليّ8، حيث ردّوا المذهب الطبيعيّ في الأخلاق، بأنّه لو كان صائباً لأُلغيت الشرائع والديانات، ولبطلت تعاليم ووصايا الأنبياء، ولكانت الدعوة إلى التهذيب والتزكية والتأديب وتحسين الأخلاق… عبثاً ولهواً، وجلّ الله تعالى وأنبياؤه عن اللغو والعبث.
كما أنّ التجربة التربوية العملية تفيد بإمكان إزالة الخلق بالأسباب الخارجية من التأديب والنصائح وغيرهما. فزرع القيم التربوية وتعديل سلوكات الطفل أمر ممكن فعلاً بالوصايا والمواعظ والنصائح والإرشاد.
يقول الإمام السيد عليّ الخامنئيّ دام ظله: “صناعة الإنسان وتشكيل وبناء الإنسان المطلوب في الإسلام هو أمر يحصل بالتربية. فإنّ كلّ الناس لديهم قابلية التربية. قد يتقبّل البعض التربية متأخّراً والبعض أسرع، فالبعض قد تترسّخ التربية لديه وتدوم أكثر والبعض قد تُفارقه بسرعة أكبر، لكن كلّ الناس معرّضون للتغيير والتبدّل الذي يحصل بالتربية”9.
رابعاً: وبذلك يظهر أيضاً أنّ الأخلاق والسلوكات الحسنة ليست وليدة الطبيعة لأنّ ما هو طبيعيّ لا تُمكن إزالته وتغييره. نعم الطبيعيّ والفطريّ هو مبادئ وقوى وقابليات واستعدادات تلك الأخلاق والأفعال، أمّا كيفية استخدام هذه القوى والمبادئ فهو خاضع لإرادة الإنسان وخاضع للتربية10.
يقول الشيخ جعفر السبحاني: “إنّ للإنسان ماهيّتين: أولاً: ماهيّة عامّة يتكوّن معها ويتولّد بها. وثانياً: ماهيّة خاصّة يكتسبها في ضوء إرادته عن طريق العمل… أمّا الطبيعة العامة، فهي عبارة عن الطاقات والمواهب الإلهية المودعة في وجوده وهي ميول طبيعية تسوقه إلى نقطة خاصّة فيها سعادته أو شقاؤه، وقد أعطى سبحانه زمامها بيد الإنسان المختار في كيفية الاستفادة منها كمّاً وكيفاً… وأمّا الطبيعة الخاصّة، فهي عبارة عمّا يتكوّن في نفس الإنسان من الروحيات العالية أو الدانية نتيجة استفادته من تلك المواهب الأوّلية، إفراطاً أو تفريطاً أو اعتدالاً”11.
وتربية الطفل في جعله يميل إلى أحد الاتّجاهين إنْ خيراً أو شرّاً إنّما تحصل من خلال تكرار الأعمال المتشابهة بالدربة والعادة لمدّة زمنية معيّنة وطويلة غالباً، فهو الذي يؤدّي إلى إيجاد الصفات الحسنة أو السيّئة في نفس الطفل، لا أنّ الصفات الحسنة بمعنى الملكات موجودة بالفطرة. وهذا يؤكّد أهمّية عدم الإهمال والإغفال للعادات السيّئة التي قد يكتسبها الطفل تحت عنوان أنّه ما زال صغيراً، بل ينبغي الانتباه واليقظة في إيجاد العادات الحسنة عند الطفل حتى لو لم يعِ حسنها، لأنّها ستتحوّل لاحقاً إلى طبيعة ثابتة فيه وتُصبح خلقاً تصدر عنه الأفعال بسهولة.
وبهذا يظهر أنّ التربية ليست مجرّد عملية إعطاء المعرفة وإكساب العلم، وبالتّالي يحصل السلوك تلقائياً، بل التربية هي عملية تنمية اتّجاهات وزرع وتفتّح قيم وتغيير سلوك وإكساب مهارات بالدربة والعادة كي يتّجه الطفل نحو الهدف المطلوب. فالمعارف التي يتلقّاها المتربّي لا تُحرّكه أوتوماتيكياً تجاه السلوك، وإن كانت المعرفة واحدة من مبادئ الفعل. وفي نفس الوقت حذراً من الوقوع في فخّ تحوّل الطفل إلى مجرّد آلة فيزيائية يصدر عنه العمل نتيجة العادة من دون الإحساس بالشحنة القيمية التي تُحرّكه، لا بدّ من إعطاء جرعة إضافية إلى جانب التعويد، وهي جرعة أن يكون العمل الذي تعوّد عليه الطفل صادراً عنه عن قناعة ورغبة وإرادة ذاتية وشعور بالمسؤولية.
وبمعنى آخر لا ينبغي تربية الطفل بنحو يصدر عنه الفعل تحت وطأة الشعور بالحاجة إلى العمل لمجرّد إلحاح تكرار العادة (الإدمان)، بل أن يصدر العمل عن الطفل في المرحلة العمرية التمييزية على أقلّ تقدير انطلاقاً من الوعي بالقيم وانتهاء إلى الوعي بالنتائج. وإلا فإنّ تعويده على قيم معيّنة موجبة أو سالبة من دون وعي وقناعة ورغبة قد يكون السبب في إضعاف الإرادة من ناحية توليد العجز عن مقاومة المتغيّرات، ممّا سيجعله يُعرض عنها بمجرّد أن يصل إلى مرحلة عمرية يُصبح فيها قادراً على الانتخاب والتمييز، أو عرضة لمؤثّرات بيئية معيّنة (مدرسة، صداقة…)، مما يؤدّي إلى انعطافة وتحوّل سريع في أخلاقه وسلوكه، أمّا العادة المنطلقة من إرادة ووعي تمنح الطفل القدرة على التغلّب على كلّ المتغيّرات، بل على طبيعته أيضاً12.
خامساً: يظهر من بعض العلماء المسلمين تعارض مجموع آرائه في كتاباته حول الموضوع13. وفي الحقيقة لا تعارض بين وجهات النظر الثلاث، فإنّ كلّ تعبير ناظر إلى حيثية من حيثيات طبيعة الطفل وإلى قوّة من قواه، فإنّ الطفل له قوى متعدّدة، وبلحاظ كلّ قوّة يُمكن التوصيف بالخير أو الشرّ أو الحياد، فإنّ نفس الطفل بلحاظ كونها من نور الله تعالى وروحه فهي خير وتميل إلى الخير، وبلحاظ قوّة الشهوة والغريزة تميل إلى الشرّ، وبلحاظ كونها مختارة هي مستعدّة لكلّ واحد من الطرفين، بمعنى أنّها غير مجبرة على أحدهما دون الآخر، وإنّما تسير باتّجاه الخير أو الشرّ نتيجة عوامل خارجية لا ذاتية، أي نتيجة التربية والتأديب والتعليم والبيئة… إلخ.
الرأي المختار في المسألة انطلاقاً ممّا تقدّم، نقول إنّ طبيعة الطفل خيّرة بالطبع وبأصل الفطرة، كما تُفيده النصوص الدينية التي تتحدّث عن الفطرة التوحيدية. ولكنّ الطفل على الرغم من ميله الفطريّ بحسب الصبغة الإلهية إلى الخير ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَ﴾14، لا ينتفي ويرتفع استعداده النفسيّ للسير في الاتّجاهين معاً نتيجة عوامل خارجية كالتربية والبيئة وداخلية كالتفاعلات النفسية مع الأشياء ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورً﴾15، فبسبب عنصر الاختيار يكون لديه استعداد للسير في اتّجاه الخير أو اتجاه الشرّ وهو بهذا المعنى حياديّ، ولكن أيضاً بسبب ضعفه وحاجته وعدم إدراكه ووعيه ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ﴾16، “ضعف الإدراك والجسم في الأطفال”17 من جهة، ونتيجة قواه الحيوانية لأنّه لم يتشكّل على صورة إنسان بعد من جهة ثانية، وبفعل عدم وجود قيم عقلية ودينية تُسيّر تصرّفاته، سيتحرّك على مقتضى ما تُمليه عليه قواه الطبيعية، وبالتّالي سيميل إلى ما تأمره به قوّة الشهوة والغضب وحبّالأنا، ممّا يترتّب عليه آثار ونتائج سلبية وغير حسنة، فهو للسير في اتّجاه الشرّ نتيجة ضعفه وجهله ونقصه وحاجته أوفق ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولً﴾18، ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفً﴾19, ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾20. وهنا يأتي دور التربية في الأخذ بيد الطفل والسير به في أيّ اتجاه من الاتجاهات، فالطفل في المحصّلة هو صناعة التربية.
والتربية قبل ولادة الطفل لها دور في تكوين استعدادات خاصّة فيه، بحيث يولد مجهّزاً بتلك الاستعدادات حتى بالوراثة، ويُصبح فيما بعد من الصعوبة – وليس المستحيل – تدارك تلك الاستعدادات وتحويلها عن مسارها الذي رسم في شخصية الطفل.
وبناءً عليه، نفهم رأي نصير الدين الطوسي في أنّ الطفل يميل إلى الأخلاق الذميمة بسبب ما في طبيعته من النقص والحاجة21. فهذه النظرية التي يتبنّاها الطوسي ليست في مقام البيان من جهة الفطرة والجبلّة، وإنّما في مقام البيان من جهة العمل والسلوك، بمعنى أنّ الطفل لأنّه ليس كائناً عقلائيّاً ومتشرعيّاً، فإنه سيميل إلى طاعة الغريزة والشهوة، وهي بطبعها تُحرّكه نحو تحقيق ما فيه لذّته الشهوية والمادّية، وبعبارة أخرى إنّ الطفل لو خُلّي وقواه النفسية الشهوية والغضبية مع جهله وضعفه وعدم تزوّده بقضايا العقل العمليّ والوحي كضوابط للقيم والسلوك، سيجعل قواه تجذبه نحو تحقيق ما يُلائمها ويُنافرها، وهو بحسب الغالب يكون سيراً باتّجاه القبح أكثر منه نحو الحسن، لذا يُنبّه في هذا المجال فيقول الطوسي: “عندما تتمّ أيام رضاعه يجب الانشغال بتأديبه وتدريبه على الأخلاق الفاضلة قبل أن يتعوّد على الأخلاق الفاسدة، إذ يكون الطفل مستعدّاً لها، وأكثر ميلاً للأخلاق الذميمة بسبب ما في طبيعته من النقصان والحاجة”22.
وفي ذات السياق، يقول الفيض الكاشاني: “إنّ الصبيّ إذا أُهمل في ابتداء نشوئه خرج في الأكثر رديّ الأخلاق، كذّاباً، حسوداً، سروقاً، نمّاماً، لجوجاً، ذا فضول وضحك، وكيّاد، ومجانة، وإنّما يحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب”23.
إذاً، لا تنافي بين النظرية التي ترى أنّ الطفل خيّرٌ بطبعه وبين ما يذهب إليه بعض الحكماء المسلمين في بعض كلماته من ميل الطفل إلى الشرّ والأخلاق الرذيلة، فإنّ النظرية الأولى تُفيد أنّ طبيعة الطفل بأصل الفطرة تميل إلى الخير والتوحيد وقبول الدين، ولكن هذا لا يعني أنّه تلقائياً لو خُلّي الطفل وطبعه وبيئته وتربيته ستذهب نفسه في هذا الاتّجاه، بل تسلك اتّجاهاً آخر يتناسب مع البيئة الاجتماعية والتنشئة والتربية، لأنّ الميل الفطريّ نحو الخير لا يُنافي الاستعداد الطبيعيّ بسبب قوّة الاختيار الكامنة فيه إلى الطرفين معاً. وبهذا التفسير نفهم قول الإمام عليّ – لولده الحسن – عليهما السلام: “إنّما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما أُلقي فيها من شيء قِبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبّك”24، بنحو لا يتنافى مع قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “كلّ مولود يولد على الفطرة”25.
حقّ الطفل في الخطأ نختم الدرس بنقطة بنيويّة في كيفية التعامل التربويّ مع الطفل، وهي أنّه سواء أكانت طبيعة الطفل خيّرة أم شرّيرة أم حيادية، فإنّ هذا لا يعني أنّ الطفل لن يقع فيما نراه نحن الراشدون أنّه خطأ أو خطيئة، لأنّ الطفل نتيجة جهله المطلق وضعفه ونقصه يسير في طور الاكتشاف لذاته وللمحيط من حوله، ومن الطبيعيّ أن يقع في الخطأ، فإنّه يتعلّم من أخطائه، لذا يُمكن تأسيس قاعدة عامّة في سياق تربية الطفل، وهي مراعاة حقّه في أن يقع في الخطأ.
عن الإمام الباقر عليه السلام: “أنّ علياً عليه السلام كان يقول: عمد الصبيان خطأ…”26.
وعن الإمام الصادق عليه السلام، قال: “عمد الصبيّ وخطؤه واحد”27.
وقد وقع الاختلاف في وجهات النظر عند الفقهاء في كون هذه الروايات مختصّة بباب الديات والجنايات أم أنّها عامّة ومطلقة. وقد استظهر بعض الفقهاء منها عدم الاختصاص بباب الجنايات، منهم الشيخ الأنصاري حيث قال: “كل حكم شرعيّ تعلّق بالأفعال التي في ترتّب الحكم الشرعيّ عليها القصد بحيث لا عبرة بها إذا وقعت بغير القصد فما يصدر منها عن الصبيّ28 قصداً بمنزلة الصادر عن غيره بلا قصد”29. وهذا مؤشّر إلى أنّ الفعل العمديّ الصادر عن الطفل – حتى المميّز، فكيف بالطفل دون سنّ التمييز – يُنزّل في الشريعة الإسلامية منزلة الخطأ، ويتمّ التعامل معه كالتعامل مع المُخطئ.
هذا، بالإضافة إلى إمكانية استفادة المعنى السابق من أحاديث: “رفع القلم30 عن الصبيّ حتّى يحتلم”31. يقول الشيخ محمد حسين النائيني: “إنّ الظاهر من قوله عليه السلام: “رفع القلم عنه”، ما هو المتعارف بين الناس والدائر على ألسنتهم: من أنّ فلاناً رفع القلم عنه، ولا حرج عليه، وأعماله كأعمال المجانين، فهذه الكلمة كناية عن أنّ عمله كالعدم، ورفع عنه ما جرى عليه القلم فلا ينفذ فعله، ولا يمضي عنه، فإنّ ما صدر عنه لا يُنسب إليه”32.
وهذا يُشعر بأنّه من حقّ الطفل الوقوع في الخطأ. والمقصود بالحقّ هنا الحقّ القانونيّ والأخلاقيّ والطبيعيّ، لكون وقوع الطفل في الخطأ سنّة طبيعية في مراحل نموّه، فما نُصّنفه نحن الراشدون في دائرة الخطأ لا يُصنّفه الطفل في مراحل طفولته المبكرة كذلك، خصوصاً في مرحلة ما دون التمييز، لعدم معرفته بمعنى الصواب والخطأ33.
يبقى أن نُشير إلى نقطة أخيرة – ستتضح ملامحها خلال درس التربية بالعقوبة – وهي أنّ حقّ الطفل في الوقوع بالخطأ لا يعني إقراره على خطئه، أو عدم تنبيهه وإرشاده وتوجيهه إلى الصواب، أو التساهل والتسامح معه في كلّ خطأ كان وبأيّ مرحلة عمرية كانت.
* المنهج الجديد في تربية الطفل، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- يراجع: العطاران، محمد، تربية الطفل وفقاً لآراء ابن سينا والغزالي والطوسي، ص27-30. 2- أبو دف، محمود خليل، مشكلة العقاب البدني في التعليم المدرسي وعلاجها في ضوء التوجيه التربوي الإسلامي، مجلة الجامعة الإسلامية، المجلد السابع، العدد الأول، يناير 1999. 3- تركي، عبد الفتاح ابراهيم، فلسفة التربية- مؤتلف علمي نقدي، ص32. 4- تركي، فلسفة التربية- مؤتلف علمي نقدي، ص32. 5- علي، سعيد إسماعيل وفرج، هاني عبد الستار، فلسفة التربية رؤية تحليلية ومنظور إسلامي، ص299. 6- سورة السجدة، الآية 7. 7- جامع السعادات، ج1، ص49. 8- يراجع مثلاً: الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، إحياء علوم الدين، ج8، ص101. والنراقي، جامع السعادات، ج1، ص46-49. 9- من كلمة للسيد علي الخامنئي في لقاء المعلمين والتربويين بمناسبة أسبوع المعلم بتاريخ:07/05/2014. على الرابط التالي: htt p://www.almanar.com.lb/wa padetails. php?eid=840376. 10- أرسطو، أخلاق نيكوماخوس، ص36-37. 11- المكي، حسن محمد، الإلهيات على ضوء الكتاب والسنة العقل محاضرات الشيخ جعفر السبحاني-، ج1، ص681. 12- يراجع: الطوسي، نصير الدين، أخلاق ناصري، ص101-103. 13- فمثلاً نرى الغزالي في موضع يقول: “حبّ الإنسان للحكمة والخالق عزّ وجلّ والمعرفة والعبادات لن يُماثل الرغبة في الأكل، إذ إنّه من مقتضيات طبيعة الإنسان، وذلك لأنّ قلب الإنسان من الأمور الربّانية فيما يعد اندفاع الإنسان إلى الرذائل من مقتضيات الشهوة، ولا علاقة له بالطبيعة”. كيماء السعادة، ج3، ص499. وفي موضع آخر من نفس الكتاب، ص37، يقول: “اعلم أنّ النفس مجبولة على الابتعاد عن الخير والتعلّق بالشر، وترغب في التقاعس والشهوة”. وفي كتاب آخر يقول: “إنّ الصبيّ أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كلّ نقش وصورة، وهو قابل لكلّ نقش ومائل إلى كلّ ما يمال به إليه، فإن عوّد الخير وعلّم نشأ عليه، وسعد في الدّنيا والآخرة، شاركه في ثوابه أبواه، وكلّ معلّم له ومؤدّب، وإن عوّد الشرّ وأهمل شقي وهلك”. إحياء علوم الدين، ج8، ص130. وهذا الرأي يظهر منه أن الطفل مجبول على الخير بمعنى أن نفسه تميل إلى الخير أكثر من الشر. 14- سورة الشمس، الآية 8. 15- سورة الإنسان، الآية 3. 16- سورة الروم، الآية 54. 17- مغنية، محمد جواد، التفسير المبين، ص538. ومغنية، محمد جواد، التفسير الكاشف، ج6، ص151. قال:” ضعف البنية والإدراك في الطفل”. ويراجع: مجمع البيان، ج8، ص485. في تفسير الآية: “خلقكم أطفالاً لا تقدرون على البطش، والمشي، والتصرفات”. وشبّر، عبد الله، تفسير القرآن الكريم، ص390، قال: “أي ابتدأكم أطفالاً ضعافاً”. والميزان في تفسير القرآن، ج16، ص215، قال: “أي ابتدأكم ضعفاء، ومصداقه على ما تفيده المقابلة أول الطفولية”. 18- سورة الأحزاب، الآية 72. 19- سورة النساء، الآية 28. 20- سورة يوسف، الآية 53. 21- أخلاق ناصري، ص280-284. 22- أخلاق ناصري، ص280. 23- الفيض الكاشاني، محمد بن المرتضى، المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء، ج5، ص125. 24- نهج البلاغة، من وصية له لولده الحسن كتبه إليه بحاضرين منصرفاً من صفين، رقم269، ص526. 25- الصدوق، محمد بن علي، التوحيد، ص363. 26- تهذيب الأحكام، ج10، ص233، ح921. 27- م.ن، ص233، ح920. 28- الصبي من باب التغليب، وإلا فهو يشمل كل طفل سواء أكان ذكراً أم أنثى، ولا خصوصية للطفل الذكر. 29- الأنصاري، مرتضى، المكاسب، ج3، ص282. 30- المقصود برفع القلم هو إما: رفع الأحكام الإلزامية، أو رفع مطلق الأحكام الإلزامية والترخيصية، وبالتالي رفع المؤاخذة والعقاب، وإما رفع المؤاخذة والعقوبة، وإما رفع الاثنين معاً، أي الأحكام والمؤاخذة. 31- روي الحديث بألفاظ مختلفة، مثل: “عن الصبي حتى يدرك”، “عن الصبي حتى يبلغ”، “عن الصبي حتى يحتلم”، “عن الصبي حتى يكبر”، “عن الصبي حتى يعقل”، “عن الصبي حتى يشب”. يراجع: الطوسي، الخلاف، ج2، ص41. وسائل الشيعة، ج1، ص20. والبخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، ج6، ص169. والسجستاني، أبي داود، سنن أبي داود، ج2، ص338. والترمذي، محمد بن عيسى، سنن الترمذي، ج2، ص438. 32- الخوانساري، موسى بن محمد، منية الطالب في شرح المكاسب، تقرير بحث الميرزا محمد حسين النائيني، ج1، ص359. 33- أنظر: عجمي، سامر، عقوبة الطفل في التربية الإسلامية، ص240 وص305.