عاصر الإمام (عليه السلام) عددا من الحكام العباسيين، حيث شهد بقية حكم هارون الرشيد (170 ـ 193 هـ)، ومن بعده ابنه الأمين المخلوع (193 ـ 198 هـ) وأوائل حكم المأمون (198 ـ 218 هـ) الذي عهد إليه بولاية العهد.
كانت سيرة الخلفاء العباسيين شبيهة إلى حد كبير بسيرة الحكام الامويين، كلاهما مارس الظلم والعدوان على العباد، واتخذوا مال اللّه دولاً وعباده خولاً.
وأخذت رياح الفتن تعصف مثل ريح السموم على المسلمين عموما وعلى العلويين بصورة خاصة، فقد فتح العباسيون أبواب السجون وشهروا السيوف ضد الاحرار من أهل بيت الرسالة، وكان شغلهم الشاغل ملاحقة العلويين الذين يطالبون بحقهم في الحكم، لأجل تحقيق العدالة الاجتماعية.
كان الإمام الرضا (عليه السلام) يرقب عن كثب، بمرارة وألم تلك الأحداث والفجائع المؤلمة التي تعصف بالبيت العلوي، وكان يتبع الحكمة وسياسة النفَس الطويل مع السلطة وجلاوزتها، هذا الكلام لانقوله جزافا فمصاديقه كثيرة، منها: «لما خرج محمد بن جعفر بن محمد ـ وهو عمّ الإمام الرضا (عليه السلام) ـ في المدينة بعث هارون الرشيد أحد جلاوزته المعروف بالجلودي، وأمره ان ظفر به أن يضرب عنقه وأن يغير على دور آل أبي طالب، وأن يسلب نساءهم ولايدع على واحدة منهن إلا ثوبا واحدا.. فصار الجلودي إلى باب دار أبي الحسن الرضا (عليه السلام) وهجم على داره مع خيله فلما نظر إليه الرضا (عليه السلام) جعل النساء كلهن في بيت، ووقف على باب البيت، فقال الجلودي لابي الحسن (عليه السلام) لابدّ من أن أدخل البيت فاسلبهن كما أمرني أمير المؤمنين، فقال الرضا (عليه السلام): أنا أسلبهن لك وأحلف أنّي لا أدع عليهن شيئا إلاّ أخذته، فلم يزل يطلب إليه ويحلف له حتى سكن، فدخل أبو الحسن الرضا (عليه السلام) فلم يدع عليهن شيئا حتى أقراطهن وخلاخيلهن وإزارهن إلاّ أخذه منهن وجميع ما كان في الدار من قليل وكثير»[1].
وكان واضحا من هذا الموقف مدى الحقد الدفين الذي يكنه هارون للعلويين بسبب معارضتهم التي تشكل كابوسا مؤرقا للعباسيين، لذلك شن «هارون» ومن قبله من حكام العباسيين حربا شعواء منظمة في كل الاتجاهات ضد العلويين، وقتلوهم تحت كل حجر ومدر، ولم يسلم حتى من تظاهر بمسالمتهم فقد دسوا إليه السّم، ولعل أوضح شاهد على الجو الخانق والضيق الشديد الذي تعرض له أهل البيت: في ذلك الوقت ماجرى للإمام موسى الكاظم (عليه السلام) حتى أنه سمّي بالكاظم لما كظمه من الغيظ عن أعدائه وخاصة العباسيين منهم، كان يوصي أصحابه بالكتمان والحذر وعدم المجاهرة بالمعارضة، قال لهشام بن سالم:
«من آنست منهم رشدا فألق إليه وخذ عليه الكتمان، فإن أذاع فهو الذّبح» وأشار بيده إلى حلقه[2]. وكان يشغل أكثر أوقاته بالعبادة، ومع ذلك ألقوه في غياهب السجون أكثر من مرة على الرغم من تصريحه لهم بعدم الخروج عليهم، مع كل ذلك أمر المهدي العباسي (158 ـ 169 هـ) بجلبه إلى بغداد وحبسه، وقال له: تؤمنني أن لاتخرج عليّ أو على أحد من ولدي؟ فقال الإمام (عليه السلام): «لا واللّه! لافعلت ذلك، ولا هو من شأني». ولما هلك المهدي وقدم هارون إلى المدينة منصرفا من عمرة رمضان سنة 179 هـ، حمل معه موسى الكاظم (عليه السلام) إلى بغداد وحبسه إلى أن توفي في محبسه[3]، قتله السندي بن شاهك في سم جعله في طعام قدّمه إليه[4].
وبذلك عاصر الإمام الرضا (عليه السلام) مأساة أبيه من بدايتها إلى نهايتها، تلك المأساة التي تمثل من جهة أخرى رسالة مفتوحة في خطاب التهديد والإنذار والوعيد، يتلقّاه في مطلع شبابه.
وفي عصر كهذا. ..، كان الإمام (عليه السلام) يتصرّف في حدود ما هو متاح له، وكان يجهر بالحقيقة ولاتأخذه في الحق لومة لائم، حتى أن بعض أصحابه قد خاف عليه من السلطة الظالمة، والبعض دعاه إلى التمسك بالتقية.. ففي رواية ينتهي سندها إلى صفوان بن يحيى، قال:
لما مضى أبو الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) وتكلم الرضا (عليه السلام) خفنا عليه من ذلك، فقلت له: إنّك قد أظهرت أمرا عظيما وإنّا نخاف من هذا الطاغي ـ يقصد هارون ـ فقال: «ليجتهد جهده فلا سبيل له عليّ»[5].
ومن هنا يبدو متوقعا أن العباسيين سوف يضعون الإمام (عليه السلام) في دائرة الضوء، يراقبون تحركاته، ويحصون أقواله وأفعاله، ونتيجة لذلك تظاهر الامام (عليه السلام) بالانصراف عن الشؤون العامة والانشغال عن مناوئة السلطة، وأوحى لها باهتمامه بشأنه الخاص وفق أسلوب بارع تنقله الرواية التالية، عن أبي الحسن الطيب، قال: لمّا توفّي أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) دخل أبو الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) السوق، فاشترى كلبا وكبشا وديكا، فلما كتب صاحب الخبر إلى هارون بذلك، قال: قد أمنا جانبه. وكتب الزبيري أن علي بن موسى الرضا قد فتح بابه ودعا إلى نفسه، فقال هارون: واعجبا من هذا! يكتب أن علي بن موسى قد اشترى كلبا وكبشا وديكا، ويكتب فيه ما يكتب[6].
ويبدو أن مناورة الإمام هذه هي حالة امتصاص بارعة للضغوط والمراقبة الشديدة التي يتعرض لها من «هارون» وجواسيسه، لم يكتب لها النجاح طويلاً فسرعان ما أدركت السلطة أن الإمام (عليه السلام) لا يتوانى ولا يستكين ولا يكف عن كشف زيف العباسيين والمظالم التي يرتكبونها باسم الدين، وكان من الطبيعي أن تثور ثائرتهم، فلم يتركوه طليق اليدين.
وبعد هلاك هارون ونشوب الخلاف الدموي بين ولديه الأمين والمأمون أصبح الطريق سالكا أمام الإمام (عليه السلام) فوجد الفرصة سانحة له بعض الشيء للقيام بدور فعال في إحياء ما دثر من مآثر الإسلام الخالدة، وبما يتناسب مع تلك المرحلة الحرجة من تاريخ بني العباس السياسي الدامي، كما انفسح المجال أمام شيعته للاتصال به، وعلى ضوء هذا التحول واتساع النفوذ والتعاطف الجماهيري الكبير، قاد الإمام (عليه السلام) حركة فكرية واسعة سرعان ما أثمرت بوقت قصير.
وهناك روايات تاريخية تُلقي ضوءا على حقيقة ما قلناه، فقد قام بجولة واسعة في العالم الاسلامي، وقد ابتدأ جولته من المدينة إلى البصرة لكي يجتمع مباشرة مع قواعده الشعبية ويحدثها في كل شيء، وكان من عادته قبل أن يصل تلك المنطقة أن يرسل إليها رسولاً يخبرهم بمقدمه إليهم خلال الأيام القلائل الآتية.. ثم يأتي إليها الإمام (عليه السلام) والجمهور متهيء لاستقباله والاجتماع به، فيعقد معهم اجتماعا واسعا يلقي عليهم الحجة بإمامته وقيادته ويطلب منهم بعد ذلك أن يسألوه، لكي يجيب على أسئلتهم في مختلف جوانب المعرفة الاسلامية.
بعد هلاك هارون وجد المأمون نفسه بعد خلعه لأخيه، في مأزق خطير، فقد كشف الناس زيف شعارات العباسيين الداعية للرضا من آل محمّد (صلى الله عليه وآله) بعد أن تبين للقاصي والداني أن سياستهم غير المعلنة تقوم على التفرد والاستئثار بالسلطة، من جهة أخرى أخذت الثورات وخاصة ثورات العلويين تقضُّ مضاجعهم، إضافة إلى الصراع الذي نشب داخل البيت العباسي، مما أضعف قوتهم وشتت شملهم، وفي الوقت الذي ثار فيه صراع عنيف بين الأخوين، اشتعلت نار الثورة في بلاد الشام، اذ ثار السفياني وهو «علي بن عبد اللّه بن خالد بن معاوية بن أبي سفيان» ودعا إلى نفسه، واستولى على دمشق والمنطقة المحيطة بها، وكاد أن يقيم حكما أمويا في بلاد الشام، لولا أن نشب نزاع بين اليمنيين والمضريين، أضعف قوته، فنجح الأمين بعد جهود كثيرة استمرت أكثر من عامين في القضاء عليها[7]، كل تلك العوامل دفعت المأمون إلى الامساك بزمام الامور، وكان معروفا بالدهاء والحنكة السياسية، إذ وجد أن السيطرة على الوضع لاتتم إلا بانهاء القطيعة مع العلويين الذين اشتد ساعدهم وتزايدت ثوراتهم وتوسعت قواعدهم الجماهيرية، ولهذا قام باستدعاء الإمام الرضا (عليه السلام) من المدينة متظاهرا بانه سوف يتنازل له عن الخلافة، أو على الأقل يوصي له بولاية العهد، خصوصا وهو يعلم ان الإمام هو زعيم الطالبيين، وهذا التحول السياسي المدروس بدهاء أبدل الظرف السياسي الخانق الذي كان يحيط بالامام (عليه السلام) إلى نوع من الحرية السياسية من حيث الظاهر، فبينما كان هارون يورد العلويين حياض الموت والذل والجوع، وأراد لهم أن يأخذوا دور التابع الذليل الذي لاحول له ولاقوة، أخذ المأمون يقرب العلويين ويتودد إليهم ويغدق عليهم ويشيد بفضلهم ويتظاهر بالدفاع عن حقهم بالحكم، كما أرجع فدكا على ولد فاطمة (عليها السلام)، وغدا دورهم دور الشريك الفاعل، لا دور التابع الخامل، كما كان الحال في عهود أسلافه. وكل من يتتبّع المجرى العريض لهذا التحول السياسي، يجد أن المأمون أراد أن لا يسير عكس التيار، فالتيار الجماهيري العريض كان لصالح العلويين في زمانه، وكان تيار الحب للعلويين قد تعاظم حتى في عقر داره وبالتحديد في عاصمته «مرو» بخراسان. زد على ذلك زيادة تحركات الإمام الرضا (عليه السلام) في المدينة وهي العاصمة الروحية للخلافة الاسلامية، ويكفينا الاستدلال على خشية المأمون من العلويين عامة ومن زعيمهم الإمام الرضا (عليه السلام) على وجه الخصوص، ماقاله المأمون لقادة العباسيين عندما وجهوا إليه اللّوم والعتاب على تقليده ولاية العهد للرضا (عليه السلام)، قال: قد كان هذا الرجل مستترا عنا يدعو الناس إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه إلينا، وليعرف أن الملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المعتقدون أنّه ليس مما ادعى لنفسه في قليل ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه، وقد خشينا إن تركناه على تلك الحالة أن ينشقَّ علينا منه ما لا نقدر على سدِّه. . وأن يأتي علينا ما لا طاقة لنا به..[8].
هذا النص يعكس لنا بدون لبس مدى خوف المأمون من تحرك الإمام ومن اتساع قاعدته الجماهيرية، وقد تمكن المأمون من خلال مخطط ولاية العهد من تطويق الإمام وعزله عن الناس ووضعه في الاقامة الجبرية في خراسان، لم يضعوه ـ هذه المرّة ـ في السجون المظلمة كما كان الحال مع أبيه الكاظم (عليه السلام) من قبل، بل وضعوه في قصور شاهقة وأبنية فارهة، لم يكن التغير ـ اذن ـ في الجوهر بل في الظاهر، وقد كان الإمام (عليه السلام) يشتكي على الدوام من الوضع الخانق الذي يحيط به، فعيون السلطة ترصد حركاته وسكناته، وتحجب عنه أقطاب شيعته، وكان محاطا بالدسائس والمؤامرات التي تحاك هناك بين أقطاب السلطة أنفسهم من أجل الايقاع به ومنعه من الاتصال بالناس.
ومن أجلى الشواهد على ذلك أن المأمون وجد في يوم عيد انحراف مزاج أحدث عنده ثقلاً عن الخروج إلى الصلاة بالناس، فقال لأبي الحسن علي الرضا (عليه السلام): يا أبا الحسن قم وصل بالناس، فخرج الرضا (عليه السلام) وعليه قميص قصير أبيض وعمامة بيضاء لطيفة، وفي يده قضيب.. فلما رآه الناس هرعوا إليه وانثالوا عليه لتقبيل يديه، فأسرع بعض الحاشية إلى الخليفة المأمون، فقال: يا أمير المؤمنين تدارك الناس واخرج وصلّ بهم وإلا خرجت الخلافة منك الآن، فحمله على أن يخرج بنفسه وجاء مسرعا، والرضا (عليه السلام) بعد من كثرة زحام الناس عليه لم يخلص إلى المصلى، فتقدم المأمون وصلّى بالناس[9].
ومن هنا يبدو متوقعا أن يسعى المأمون للتخلص من الإمام (عليه السلام) عن طريق دس السّم اليه.
وخلاصة القول أن الإمام الرضا (عليه السلام) عاصر أحداثا سياسية جسيمة عصفت بالبيت العلوي خاصة وبالمسلمين عامة، فقد قضى شطرا كبيرا من عمره زمن هارون يشاهد مأساة العلويين، وخاصة بعد سجن أبيه (عليه السلام) ومن ثم اغتياله بالسم، ومعاصرته للصراع الدموي الذي تفجر داخل الكيان العباسي بين الاخوين (الأمين والمأمون) حيث انقسمت الدولة العباسية التي كانت كيانا واحدا إلى شطرين متحاربين.
وفي خضم هذه الاحداث وقف الامام (عليه السلام) بكل شموخ مدافعا عن صرح الإسلام العظيم، معريّا السلطة مما كانت تذيعه من شرعية وجودها السياسي.
المصدر: الإمام الرضا (ع) سيرة وتاريخ
[1] عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 172، ح 24، باب (40). [2] الارشاد / الشيخ المفيد 2: 222 و 235. [3] الأئمة الاثنا عشر / شمس الدين بن طولون: 90. [4] الارشاد 2: 242. [5] عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 246، ح 4، الباب (50). [6] عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 222، ح 4، الباب (47). [7] جهاد الشيعة / الدكتورة سميرة الليثي: 316. [8] دلائل الإمامة / الطبري: 340 ـ 38، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 181، ح 160، الباب (41). [9] كشف الغمّة / أبي الحسن الإربلي 3: 58، وانظر: الإرشاد 2: 264، وعيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 160 / 216، باب (40).