منهجية المعرفة وإثبات وجود إله للكون
شبكة المعارف الإسلامية-بتصرف*
لا شك أن البحث عن كيفية تكون الكون، وكيفية نشوء الأنواع الحية، وكيفية سلوك الأجسام والجسيمات والإلكترونات والفوتونات والكواركات وسائر الموضوعات الطبيعية، لا يرتبط جوهريا من قريب أو بعيد بمسألة أن هناك إلها أوجد العالم ويدبره، أو لا، لأن البحث عن كيفية نشوء الكون وكيفية عمله سيبقى علماً قائماً، سواء كان هذا النشوء وهذا العمل مستنداً إلى إله عاقل ومنظم، أو أنه كان وليد حدث اتفاقي أعمى، إذ إن الفيزياء والبيولوجيا لا تنظران إلى موضوعاتهما، إلا من حيث إنها موضوعات العالم الطبيعي بوصفها أجساماً أو كائنات حية ناشئة ومتكونة وتتصرف بنحو مخصوص، ومن ثم ينصب البحث على اكتشاف كيف نشأت وكيف تعمل ونحو ماذا تتجه، سواء كان المسؤول الأول عن كل ذلك هو الإله أم أي شيء آخر، فإن هذه النقطة ستكون أجنبية عن الجهة التي ترعاها العلوم الطبيعية بما هي علوم طبيعية.
وإذا كان هناك إله مسؤول عن إيجاد الطبيعة والكون وتدبيرهما، فإن ذلك لن يغير من طبيعة البحث العلمي الطبيعي وحقيقته ومساره بأي نحو من الأنحاء، فإن النظر والبحث حول كيفية عمل الطبيعة وإن كانت في النهاية استكشافاً لفعل ذلك الإله، إلا أن المتخصصين في العلوم الطبيعية وحينما يكونون في مقام الكشف عن مسائلها الفيزيائية أو البيولوجية أو الكيميائية، فإنهم لا يلاحظون بأي نحو من الأنحاء جهة ارتباطها بالإله، وذلك لأنها جهة غريبة لا تقدم أو تؤخر بالنسبة إلى موضوع البحث والغاية منه، مثلما أن البحث العلمي في البيولوجيا مثلاً لا ينظر من قريب أو بعيد إلى الحقائق الفيزيائية حول الذرات ومكوناتها، رغم أن عمل الكائنات الحية لا يخرج في النهاية عن كونه تطبيقاً للقوانين التي اكتشفتها الفيزياء، ولكن طبيعة الموضوع وجهة البحث وكيفية اكتشاف المسائل في البيولوجيا لا تمت جوهرياً من قريب أو بعيد إلى مسائل البحث الفيزيائي، ولذلك لا تكون منظورة على الإطلاق خلال البحث العلمي في البيولوجيا، ولا يسعى الباحث البيولوجي بما هو بيولوجي إلى الكلام عنها، أو استخدام البحث البيولوجي، بل لا يمكنه أصلاً القيام بذلك، وإلا كان كمن يحمل الماء أو يسقي زرعه برماد.
والأمر عينه يجري في البحث حول مسائل الرياضيات والهندسة، فإن اكتشاف القواعد والمعادلات يتم دون أن يكون هناك أي التفات من قريب أو بعيد إلى أن هذه الأرقام هي أعداد لأجسام أو جسيمات أو ذرات، وكذلك دون أن يكون هناك التفات إلى أن هذه الأشكال هي أشكال أجسام من أي نوع وفي أي مكان، رغم أنها في النهاية لا توجد بالفعل إلا في جسم محدد ومكان محدد، وهذا واضح عند من له أدنى معرفة بطبيعة البحث العلمي.
إذا كان هذا الفصل المنهجي والموضوعي الصائب بين العلوم لا يجد أدنى معارضة بالنسبة إلى العلوم الطبيعية فيما بينها، فلماذا يصير لهذا الفصل مشكلة عندما يأتي دور البحث عن وجود إله للكون؟ ولماذا يراد إظهار العلوم الطبيعية وكأنها تقف على الطرف المضاد للقول بوجود إله؟ إن الإجابة عن هذا التساؤل قد أصبحت واضحة مما تقدم، إذ إن الخلط والخطأ بدأ من عند القائلين بوجود إله من الباحثين في علوم الطبيعة، حيث أقحموا الوجود الإلهي وتدبيره كحلقة داخلة ضمن عملية التفسير الفيزيائي والبيولوجي لعمل الطبيعة، فكان هذا الإقحام الخاطئ هو الأساس الذي مهد الأرضية لتبدو فكرة الوجود الإلهي المدبر وكأنها قد أصبحت موضع إبطال ونقد من داخل العلوم الطبيعية، والحال أن الذي جرى هو مجرد وضع الأمور في نصابها الصحيح، حيث توقف المتخصصون في العلوم الطبيعية عن الاستعانة بالتدبير الإلهي في مقام التفسير لعمل الطبيعة بأجزائها ومكوناتها، لأن ذلك هو مقتضى طبيعة الموضوع والجهة التي يبحث عنها فيه.
ولأن الملحدين يخوضون صراعاً تاريخياً مع الإلهيين، كان هذا الإعراض مادة دسمة لترويج التنافي، واعتبار أن العلم قاد إلى نفي الوجود الإلهي، أو استغناء العالم عن الإله، والحال أن غاية ما فعله العلماء الطبيعيون في إعراضهم عن إدخال فكرة الوجود الإلهي في عمل الطبيعة هو أنهم بينون أنها ليست داخلة بشكل جوهري ضمن مباحث العلم الطبيعي، ولا يحتاج إليه في مقام وصف الطبيعة من الجهة التي يتوخى البحث الطبيعي النظر إلى الطبيعة من خلالها. وهناك فرق كبير وجوهري بين النتيجتين، فمسألة وجود أو عدم وجود إله ليست مما يحسم في داخل علم من علوم الطبيعة، كما هو الحال في أن أي مسألة من مسائل الفيزياء ليست مما يحسم في داخل علم البيولوجيا وكذا العكس، ولأجل ذلك تجد الاعتقاد بوجود إله، أو على الأقل اتخاذ موقف اللاأدرية منه أمراً شائعاً بين علماء الطبيعة، بل تجد أن كبار الملحدين والمناهضين للدين من العلماء الطبيعيين أمثال عالم البيولوجيا ريتشارد دوكينز، وعالم الفيزياء لورانس كراوس يصرحون في العديد من المناظرات والحوارات بأنهم لا يمنعون وجود مصدر عاقل لكل هذا الكون بما فيه من القوانين الطبيعية، ولكن ما يصرون على نفيه هو وجود العلاقة التدبيرية الفعلية لهذا الإله مع الطبيعة والإنسان، بحيث أنه أرسل الأنبياء وشرع الأحكام، وستجيب لدعواتنا على حد تعبير عالم الفيزياء الكونية نيل تايسون في حواره مع ريتشارد دوكينز. فالمشكلة الأساس بالنسبة إلى الملحدين ليست في أصل وجود إله، ولا في كون الطبيعة بما فيها من قوانين توجب أن تكون صنعاً لإله، بل إن المشكلة الحقيقية تكمن في أن لهذا الإله تدبيراً فعلياً لأحداث الكون يؤثر على الإنسان، وبالتالي فعلى الإنسان أن يخضع لهذا الإله تأثيراً على سير حياة الإنسان.
ونظراً إلى أنهم قد عدوا العلوم الطبيعية مصدراً وحيداً للمعرفة الموثوقة، لم يجدوا فيها أنها تجيب عن شيئ من هذه الأسئلة، لأنها ببساطة خارجة جوهرياً عن موضوعها، وعن وجهة البحث فيه، وتدخل تحت موضوع الفلسفة الأولى (الميتافيزيقا) التي تم شطب اسمها من لائحة العلوم، فكانت النتيحة أن اعتبروا الاعتقاد بهذه الأمور اعتقاداً غير مبني على (العلم)، لأنه مصطلح خاص بهم، حيث كرسوا حصره بما بني على التجربة الحسية.
ولكن هل العلوم الطبيعية هي المصدر الوحيد للمعرفة العلمية، أو أن العلوم الطبيعية المبنية على التجربة الحسية وعلى البراهين المتكون منها تشكل جزءاً من مجموع مصادر المعرفة والعلوم البرهانية؟ إن الجواب على هذا التساؤل لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتم من خلال العلوم الطبيعية نفسها، بل يتم من خلال البحث في نظرية المعرفة فقط، وهو بحث فلسفي واختصاص مستقل لا يدخل ضمن اختصاص عالم الفيزياء أو البيولوجيا، أو غيره من العلماء الطبيعيين بما هم علماء طبيعيين، هذه نقطة جوهرية وأساسية سنأتي عليها لاحقاً في بيان مفاتيح العلاج.
المصدر: الإلحاد: أسبابه ومفاتيح العلاج – بتصرف يسير