إن الإسلام كفكر أصيل قد وضعت أسسه واتضحت معالمه وتشخصت أركانه في عصر الرسالة، وعليه فهو ليس بحاجة إلى صياغة جديدة وإنما بحاجة ماسة إلى قراءة تجلّي صورته الأصلية وفق رؤية واضحة، خصوصا بعد أن ظهرت الفرق والمذاهب وهبّت تيارات فكرية دخيلة أثّرت على نقاء العقيدة وغدا الفكر الإسلامي فسيفساء عجيبة من الاتجاهات المتناقضة والمتنافرة.
وبطبيعة الحال فان الإمام المعصوم بما يتصف به من عصمة على صعيد الفكر والسلوك، وبما يمتلكه من عمق علمي، هو المؤهل للعمل على تقديم هذه القراءة المطلوبة لتنقية المعارف الإسلامية من الشوائب والشبهات التي علقت بها من جراء المَسْلَكَين الانحرافي، والتحريفي ويمثل المسلك الانحرافي التيارات الفكرية التي تناقض العقيدة الإسلامية بشكل مباشر، كالإلحاد والزندقة والغلو والتناسخ، أما المسلك التحريفي فتمثله التيارات المحسوبة على الإسلام والتي تحرف عن عمد أو غير عمد مضمون العقيدة الإسلامية الصافي، كالتجسيم، والتشبيه، والجبر، والتفويض، والإرجاء. فنحن إذن أمام عب ء دونه زحزحة الجبل.
لقد انحسر جانب كبير من قيم وتعاليم الإسلام في واقع الأُمة الثقافي والأخلاقي والسياسي في عصر الامويين والعباسيين، وأخذ هذا الانحسار يرسّخ جذوره في عمق الواقع الحياتي للأُمة، وامتدت تأثيراته في مساحات كبيرة من مجتمع المسلمين، وبدأ المسخ الحضاري لهوية الأُمة. وقد أصاب القيم الإسلامية اهتزاز كبير وتعرضت روحية الأُمة إلى هبوط واضح، ووجدت القيم الجاهلية لها مرتعا خصبا في ظل الحكومات المنحرفة.
في ظل هذا الواقع وجد الأئمة: أنفسهم أمام مسؤولياتهم الرسالية الكبيرة وعلى رأسها صيانة الفكر الإسلامي من خلال التصدي للتيارات الفكرية ذات الصبغة الانحرافية والتحريفية.
وتجدر الإشارة إلى أن الأدوار التي مارسها الأئمة من أهل البيت: في مختلف المراحل، ليست هي مواقف ارتجالية انفعالية لمواجهة تحديات طارئة، بقدر ماهي أدوار تنطلق من تشخيص دقيق للظروف الموضوعية التي تمر بها الحالة الإسلامية على كل المستويات. وغني عن القول أن العوامل السياسية المتغيرة والضاغطة ودرجة وعي الأُمة في كل مرحلة أو مقطع زماني هي من العوامل الأساسية في تنوع أدوار الأئمة تجاه الأمة، وإن كانت هناك أدوار مشتركة بينهم:.
لقد استطاع الإمام الرضا (عليه السلام) أن يستغل فترة التحول السياسي الذي أحدثه المأمون في مسار السياسة العباسية تجاه أهل البيت: من أجل إحداث نقلة نوعية على صعيد الفكر الإسلامي وأن يخرجه من قفص التقليد والجمود السائد، بعد أن سد الساسة وعلماء البلاط على الناس منافذ الرؤية السليمة للإسلام من خلال أفكار الجبر والإرجاء، وحرفوا أذهانهم عن التوحيد الحقيقي بفعل التجسيم والتشبيه وما شابه ذلك. لذلك أراد الإمام (عليه السلام) أن يضبط عدسة رؤيتهم على منظور سليم للإسلام مستغلاً الانفتاح الثقافي الذي حدث في عصر المأمون وتشجيعه الحركة الثقافية بمختلف تياراتها واتجاهاتها.
وكان المأمون يستبطن غرضا شخصيا ذا صبغة سياسية، فقد حرص على انقطاعه عن الحُجَّة أمام متكلمي الأديان والمذاهب الذين جلبهم من كل حدب وصوب من أجل توهين الإمام (عليه السلام) أمام العلماء والرأي العام، قال الشيخ الصّدوق: كان المأمون يجلب على الرضا (عليه السلام) من متكلمي الفرق والأهواء المضلَّة كلَّ من سمع به حرصا على انقطاع الرضا (عليه السلام) عن الحُجَّة مع واحد منهم، وذلك حسدا منه له ولمنزلته من العلم، فكان (عليه السلام) لا يكلم أحدا إلاّ أقرَّ له بالفضل والتزم الحُجَّة له عليه[1].
ولكن إمامنا واجه التحدي وشمر عن ساعد الجد، وحاجج رؤساء الأديان والملل في ذلك الزمان، ومن خلال عملية مطارحة الأفكار أذعن قادة الفكر الآخر للأدلة العلمية القاطعة التي أوردها الإمام (عليه السلام) حتى أن البعض قد أشهر إسلامه، كعمران الصابىء. وقد قدم (عليه السلام) من خلالها قراءة جديدة لقضايا شائكة كانت وما زالت موضع سجال بين علماء المسلمين، كقضايا عصمة الأنبياء والإمامة والبداء.
الإمام الرضا (ع) سيرة وتاريخ – بتصرّف