كانت معركة مؤتة معركة غير متكافئة، وقد استبسل فيها جعفر بن أبي طالب ورفاقه قادة الجيش حتى استشهدوا وانسحب المسلمون، لكنهم أوصلوا رسالة بليغة إلى هرقل، وتبعتها في السنة التالية غزوة تبوك بقيادة النبي نفسه (صلى الله عليه وآله) فكانت رسالة أبلغ، فانسحب هرقل من تبوك إلى حمص، وراسله النبي (صلى الله عليه وآله) فأجابه هرقل بجواب ليِّن، ليتفادى المواجهة في تلك المرحلة.
ولم تقع مواجهة بين المسلمين والروم بعد تبوك إلا في أجنادين، وقد انتصر فيها المسلمون وانهزم الروم، وترتب عليها تحرير فلسطين. وكان بطل أجنادين خالد بن سعيد، فقد ثأر فيها لصديقه الحميم جعفر بن أبي طالب شهيد مؤتة، فقد عاش معه في الحبشة، وعمل معه في دعوة الروم إلى الإسلام، وحمل رسالة النبي (صلى الله عليه وآله) إلى هرقل.
قال ابن عساكر في تاريخ دمشق: 16 / 66: «عن سهل بن سعد الأنصاري قال: كانت وقعة أجنادين وقعة عظيمة. كانت بالشام وكانت في سنة ثلاث عشرة في جمادى الأولى، فذكر بعض أمرها، ثم ذكر إغاثة الروم لأهل دمشق حين حصارها، قال: فتركوا مرج الصُّفَّر فصمد المسلمون صَمْدهم… فلما نظر إليهم خالد عبأ لهم كتعبئة يوم أجنادين، فجعل على ميمنته معاذ بن جبل، وعلى ميسرته هاشم بن عتبة، وعلى الخيل سعيد بن زيد بن نفيل، وترك أبا عبيدة في الرجال». وقد صحح ابن عساكر سعيد بن زيد بخالد بن سعيد. وقال البلاذري: 1 / 135: «ثم كانت وقعة أجنادين وشهدها من الروم زهاء مئة ألف سرَّب هرقل أكثرهم وتجمع باقوهم من النواحي. وهرقل يومئذ مقيم بحمص». «واجتمعت الروم بأجنادين، وعليهم تذارق أخو هرقل لأبويه، وقيل كان على الروم القبقلار». (الكامل: 2 / 417).
افتتح معركة أجنادين حفيدان لعبد المطلب، ثأراً لجعفر بن أبي طالب، فقد كان الزبير أكبر أبناء عبد المطلب، وكان وصي أبيه رضي الله عنهما، وهو صاحب حلف الفضول لنصرة المظلوم وحفظ حرمة الكعبة، وقد حضره النبي (صلى الله عليه وآله) قبل بعثته، ومدحه وأقره بعد بعثته، وتوفي الزبير قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وآله). وكان ابنه عبد الله مسلماً، وكان من الذين ثبتوا مع النبي (صلى الله عليه وآله) في حنين. وذكرت مصادر المغازي أن عبد الله كان أول من برز يوم أجنادين عندما برز بطريق مُعَلَّم ودعا إلى المبارزة، وكانوا يعطون للفارس الشجاع درجة بطريق، والمُعَلَّم: الذي عنده درجة في الفروسية، فبرز إليه عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب، فاختلفا ضربات ثم قتله عبد الله بن الزبير، ولم يتعرَّض لسلبه مع أنهم كانوا يحرصون على سلب هذا النوع من الفرسان، وقد يختلفون على سلبه إذا اشترك في قتله أكثر من فارس، لأنه يلبس قلنسوة مُذَهَّبة، وحزاماً عريضاً مُذهباً، يسمى مَنطقة. لكن حفيد عبد المطلب رضي الله عنه أعرض عنه، لأنه رأى بطلاً رومياً آخر جاء يطلب المبارزة فبرز إليه، فتشاولا بالرمحين، ثم صارا إلى السيفين، وكان الرومي مُدَرَّعاً، فحمل عليه عبد الله فضربه على عاتقه، وهو يقول: خذها وأنا ابن عبد المطلب! فشقت ضربته الدرع، وأسرع السيف في منكب الرومي، فولى منهزماً، ثم سقط. وقيل لعبد الله كفاك هذا فلا تقاتل! فقال: لا أجدني أصبر، وحمل على الروم وقتل عدداً من فرسانهم. وبحث عنه المسلمون بعد المعركة فوجدوه مثخناً بالجراح، في وجهه ثلاثون ضربة سيف، وحوله عشرة من الروم مجندلين، ووجدوا سيفه بيده لاصقاً، فعالجوه حتى نزعوه بعد عناء.
* قراءة جديدة للفتوحات الإسلامية – بتصرّف
* شبكة المعارف الإسلامية – بتصرّف