الجمع بين رؤيتي الإمام الخميني قدس سره
"إنّ هدفي من الثورة، وتشكيل الحكومة الإسلاميّة، هو إجراء الإسلام الواقعيّ، وذلك بهدف تعريف العالَم إلى المعنى الصحيح للديمقراطيّة"
الجمع بين رؤيتي الإمام الخميني قدس سره
قد يخطر لبعضٍ، وفي الوهلة الأولى، وجود تناقض بين رؤيتي الإمام المتقدّمتَين. ومن هنا حاول بعض المحقّقين في آثار الإمام وتلامذته التركيز على محورية إحداهما واعتبار النظريّة الأخرى فرعاً للأولى، أو أنّها منسوخة أو ظاهريّة أو غير علميّة. ولكن يجب التدقيق في أنّ الرؤيتين المتقدّمتين صدرتا عن فقيه أمضى مدّة طويلة من الزمن في المطالعة والتدريس والتحقيق في النصوص الدينيّة والمصادر الفقهيّة والحقوقيّة، حيث وصل عقب ذلك إلى مقام المرجعيّة، ويلزم من الوصول إلى هكذا مقام الدقّة في العبارات والأقوال والكتابات العلميّة.
ولا يمكن التغاضي عن نظريّة الإمام قدس سره حول التنصيب الإلهيّ للوليّ الفقيه، حيث ذكر ذلك في كتبه الفقهيّة، أمثال كتاب البيع، والمكاسب المحرّمة وتحرير الوسيلة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا يمكن الغفلة عن بعض كلماته وبالأخصّ ما يلي:
“الديمقراطيّة الإسلاميّة أكمل من الديمقراطيّة الغربيّة”1. “إنّ هدفي من الثورة، وتشكيل الحكومة الإسلاميّة، هو إجراء الإسلام الواقعيّ، وذلك بهدف تعريف العالَم إلى المعنى الصحيح للديمقراطيّة”2.
“يحتوي الإسلام على جميع المعاني الّتي يقال لها ديمقراطيّة. لا ينقص من الإسلام شيء. والديمقراطيّة موجودة في باطن الإسلام”3. “إنّ استقرار النظام الإسلاميّ يعادل تحقّق العدل، والاستقلال والديمقراطيّة”4. “هل الديمقراطيّة شيء آخر سوى أنْ يحدّد الناس مصيرهم بأنفسهم؟”5.
سيتمحور الحديث هنا حول منهجيّة الجمع بين النظرّيتين المتناقضتين في الظاهر. ويمكن ملاحظة وجود هكذا حالات متناقضة الظاهر بين أحاديث الأئمّة المعصومين عليهم السلام حيث استفاد الفقهاء منها في استنباط الأحكام الفقهيّة. وقد استعمل الفقهاء مناهج متعدّدة في حلّ هذه الحالات المتناقضة الظاهر، حيث جمعوها في علم أصول الفقه. وتحدّثت كتب أصول الفقه عن قاعدة هامّة عُرفت باسم قاعدة الجمع: “الجمع مهما أمكن أولى من الترك”6. بناءً على هذه القاعدة فما دام بالإمكان الجمع بشكل عرفيّ بين حديثين أو آية وحديث أو آيتين تبدوان متناقضتين في الظاهر، فلا يجب ترك أحدهما7.
وعلى هذا الأساس، فإذا كان يمكن الجمع بين رؤيتي الإمام المتناقضتين في الظاهر فلا يجب ترك إحداهما. حيث يُعَدّ هذا العمل ترجيحاً بلا مرجّح، وهو غير مقبول. أمّا منهجية الجمع بينهما فعلى النحو التالي:
إذا كان حقّ الحاكميّة على البشر هو لله فقط، عندها يمكن لصاحب هذا الحقّ أن يُجري حاكميّته أو يفوّضها. ومن هنا كان تعيين الحاكم على المجتمعات البشريّة ـ وفي جميع الحالات ـ من حقوق الله تعالى. وعلى هذا الأساس فإنّ تنصيب الوليّ الفقيه في زمن غياب الإمام المعصوم من مسؤوليّات الشارع المقدّس. ولو دقّقنا في طريقة تنصيب الوليّ الفقيه من قِبَل الشارع لوجدناه قد بَيّن خصوصيّات وَصِفات الوليّ، حيث يمكن القول عندها إنّه تمّ تنصيبه بشكل عامّ؛ بمعنى أنّ كل من وُجدت فيه هذه الخصوصيّات والصفات أصبح منصوباً من قبل الله تعالى على رأس المجتمعات البشريّة.
أمّا الصفات الّتي تحدّث عنها الشارع المقدّس والّتي تؤهّل الشخص للحاكميّة على الشعب فهي الفقاهة، والعدالة، والتدبير والشجاعة… وعندما يختار الشعب حاكماً توجد فيه هذه الصفات فهو منصوب من قبل الله تعالى. وفي الوقت نفسه منتخب ومختار من قبل الشعب. وبعبارة أخرى يُنصِّب الله تعالى حاكماً على الناس توجد فيه، بالإضافة إلى صفات الفقاهة والعدالة والتدبير والشجاعة، حالة الانتخاب من قبل الناس. فالحاكم منتخَب من قبل الشعب منصوب من قبل الله تعالى.
بهذه الصورة يمكن الجمع بين رؤيتي الإمام من دون لزوم القول بتعارضهما أو رفض إحداهما وقبول الأخرى. وعلى هذا الأساس فإنّ انتخاب الناس لا معنى له من دون تنصيب إلهيّ، والتنصيب الإلهيّ لا يحصل إلّا من خلال الناس. (كما لا يتحقّق التنصيب الإلهيّ للشخص الفاقد للعدالة).
مما تجدر الإشارة إليه أيضاً أنّ حقّ انتخاب الحاكم قد أعطاه الله تعالى للناس. فالفرضيّة الأولى لهذا البحث أنّ حقّ الحاكميّة يتعلّق بالله تعالى، ولا حقّ للناس في ذلك، إلّا أن يُعطى لهم من قبل الله تعالى. وأمّا الدليل على إعطاء هذا الحقّ إلى الناس فهو ما تحدّث عنه الإمام الخمينيّ قدس سره في مسألة حقّ الناس في انتخاب حاكم المجتمع، هذه الرؤية المستخرجة في الواقع من النصوص والمصادر الدينيّة.
ويظهر النموذج العمليّ لهذا الجمع في القانون الدستوريّ للجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة في مسألة انتخاب رئيس الجمهوريّة، فرئيس الجمهوريّة منتخَب من قبل الشعب لا بل يجب أن يُنتخب من قبل الشعب، إلّا أنّ انتخابه لا يكفي في تصدّيه لهذا المنصب، بل يقوم الوليّ الفقيه بتنفيذ هذا الانتخاب، حيث يقوم بتنصيب الشخص المنتخَب. لا فرق بين الإنسان العاديّ والشخص المنتخَب إذا لم يحصل تنصيبه. والوليّ الفقيه بدوره لا ينصّب شخصاً آخر سوى المنتخَب. ويشعر الشعب بمسوؤليّة اتّجاه انتخاب الوليّ الفقيه، هذا إذا قبلنا المنهجيّة المذكورة. فهم يعلمون بأنّ الله تعالى قد نصّب الشخص الفقيه والعادل والشجاع والمدبِّر لمقام الولاية، فكان منتخَباً من قبلهم. والوليّ في هذه الحال هو أفضل شخصية أهداها الله تعالى للشعب. ومن جهة أخرى يعلم الشعب أنّ التنصيب الإلهيّ يُضفي مشروعيّة على منتخَبِهم ويعطيه حقّ إجراء حاكميّته.
في هذه الحال يمكن الحفاظ على جمهوريّة النظام وإسلاميّته في آنٍ معاً، مع العلم أنّ أيّ أمر لا يكون برضى الله تعالى فهو غير مقبول وغير مطاع.
إنّ الهدف الأساس لهذه المقالة تقديم أسلوب نتمكّن من خلاله من حلّ المشكلة الأساس في الفكر السياسيّ الشيعيّ. هذه المشكلة الّتي قد تكون أساس ومحوريّة في التقدّم السياسيّ للنظام الإسلاميّ. ولعلّ قاعدة الجمع هي النقطة المحوريّة الّتي يعتمد عليها حلّ هذه المشكلة، أي انتخاب الوليّ الفقيه من قبل الشعب أو تنصيبه من قبل الله تعالى. وبما أنّ كلا النظريّتين موجودتان في عبارات الإمام فإنّ الطريق أو الأسلوب الثالث هو وسيلة الجمع بينهما، حيث يُحتفظ بجميع إيجابيات الرؤيتين من دون تحمُّل آثار سلبيّة معيّنة.
إنّ وجود مسألة الانتخاب من قبل الشعب، إلى جانب الشروط الأخرى كالعدالة والفقاهة والشجاعة والتدبير، تجعل من الوليّ الفقيه شخصاً جامعاً لخصوصيّتين هامّتين: الأولى أنّه منصوب من قبل الله تعالى والثانية أنّه منتخَب من قبل الشعب. طبعاً قد يجري الانتخاب من قِبَلِ الشعب مباشرة، كانتخاب الإمام الخمينيّ قدس سره للقيادة من الشعب مباشرة، أو بواسطة مجلس الخبراء، كما حصل مع الإمام القائد الخامنئيّ.
* تأملات في الفكر السياسي للإمام الخميني قدس سره، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- 14/8/1357 هـ ش.
2- 18/8/1357 هـ ش.
3- 29/6/1358 هـ ش.
4- 14/8/1357 هـ ش و 6/9/1357 هـ ش.
5- 14/10/1358 هـ ش راجع: صحيفة نور، المجلّدين 3، 4، ص، 6.
6- السيّد محمد صادق الحسيني، زبدة الأصول، ج4، قم، مدرسة الإمام الصادق عليه السلام، ربيع أول 1412 هـ ق، ص329.
7- محمّد رضا المظفّر، أصول الفقه، ج2، بيروت مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، الطبعة الثانية، 1990 م، ص196.