دعوى التناقض بين الآيات سورة النساء 78 و79
من الآيات التي اعتبر البعض أن فيها تناقض فيما بينها هي الآيات 78 و79 من سورة النساء حيث اعتبرت احدى الآيتين أن السيئة والحسنة من عند الله تعالى فيما نسبت الآية الأخرى السيئات للانسان والحسنات لله تعالى : ﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ﴾(سورة النساء،الآية:78.ففي هذه الآية كما هو واضح أن السيئة والحسنة من عند الله تعالى في حين تذكر الآية التالية : ﴿…وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ..﴾(سورة النساء, الآية:79)
من الأمور التي يعتمد عليها علماء التفسير هي أن القرآن يفسر بعضه بعضا فهناك آيات تشرح آيات أخرى وتبين ما هو المراد منها كما في قضية المحكم والمتشابه حيث يتم تفسير المتشابه بالرجوع الى المحكم من القرآن والمتشابه هو الذي يحتمل عدة معان بينما المحكم يظهر فيه المعنى المراد بشكل واضح فيتم تفسير المقصود من المتشابه وتحديد المعنى من خلال الرجوع الى المحكم وأحيانا تأتي آية تخصص آية أخرى أو تقيدها …فالخلاصة أن القرآن بما أنه يصدق بعضه بعضا ولا يوجد فيه أي اختلاف فقد فسر المفسرون القرآن ببعضه.
وقد بحث العلماء حول هاتين الآيتين بطريقة عرفانية وفلسفية وغيرها واستنتجوا أروع الاستنتاجات وأجمل الاستنباطات من خلال سبر غور هاتين الآيتين مورد البحث وسوف نبين بعض النكات التي أشاروا لها في بحوثهم:
التوحيد الأفعالي
المقصود من التوحيد الأفعالي أن الله تعالى هو المؤثر الحقيقي في الوجود وسائر الموجودات تحتاج اليه في أفعالها كما تحتاج اليه في وجودها وبعبارة أخرى أن الفعل يحتاج الى حول وقوة ليتم ولا يوجد حول وقوة للموجودات باعتبار فقرها وهذا أحد معاني “لا حول ولا قوة الا بالله” فالانسان كما انه لا وجود له من ذاته فلا حول له ولا قوة استقلالا عن الله ولا مؤثرية له استقلالا عنه تعالى.
من هنا كان من الطبيعي أن تنسب الأفعال الى الله تعالى وذلك لأنها بحوله وبقوته كما ينسب وجود الانسان اليه ولكن دون أن ترفع المسؤولية عن الانسان تجاه افعاله وهذا بحث آخر يتعلق بموضوع الجبر والتفويض ونظرية الأمر بين الأمرين وهذا البحث يطلب من محله.
إذن الآية التي تتحدث أن الحسنة والسيئة من عند الله تعالى تتحدث عن التوحيد الأفعالي الذي يذكر الانسان دوما بعدم استقلاليته على مستوى الفعل حتى لا يصاب بالغرور ويشعر بالاستغناء الذي هو أساس الطغيان”كلا إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى” والقرآن يذكر الانسان دوما بهذه الحقيقة كمثال على ذلك “فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم” “وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى” الخ من الآيات التي تؤكد حقيقة التوحيد الأفعالي ومن ضمنها “قل كل من عند الله” وهنا يطرح سؤالان:
– كيف تنسب السيئات الى الله تعالى؟ أليس من الخطأ أن ننسب السيئات الى الله تعالى وهل يليق بكماله أن ننسب السيئات اليه فالله هو الجميل ولا يصدر من الجميل الا الجميل وهو الخير ولا يأـ منه الا الخير وهو أحسن الخالقين لذلك أحسن كل شيء خلقه فكيف تنسب السيئات اليه ألا تتناقض هذه الآية مع سائر الآيات ومع الآية التي ذكرت بعدها؟
اعتبر العلماء أن للأفعال جهتين جهة تكوينية وجهة تشريعية والمقصود من الجهة التكوينية هي وقوع الفعل وحدوثه في الواقع الخارجي بينما المقصود من الجهة التشريعية هو الأمر الإلهي بالفعل أو النهي عنه بغض النظر عن وقوعه وحدوثه وكمثال على ذلك أن الله تعالى قد أمر الناس أن يقدموا صدقة قبل جلوسهم مع النبي وهذا الأمر هو الجهة التشريعية للفعل ولكن في الواقع لم يقم بهذا الفعل سوى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ولنفترض أن الامام عليه السلام لم يقم بذلك فهذا يعني أن الجهة التكوينية للفعل لم تتحقق مما يعني أنه سيبقى في دائرة التشريع دون التكوين.
وكما هو واضح فإن الافعال الحسنة تختلف عن الأفعال السيئة من الناحية التشريعية فالصدق قد أمر الله به ونهى عن الكذب وهذا يعني أن الصدق والكذب مختلفان من الناحية التشريعية . ولكن لو أتينا الى الجهة التكوينية للكذب وسألنا عن الشيء الذي وقع في الخارج لكان الجواب أن الذي وقع هو الكلام فحقيقة الكذب من ناحية تكوينية هي أنه عبارة عن كلام . ثم لو أتينا الى الصدق وسألنا نفس السؤال عن حقيقته لكان الجواب أيضا أنه كلام وهذا يعني أن حقيقة الكذب والصدق واحدة تكوينيا وأن الفرق بين الكذب والصدق هو في التشريع فذاك حرام وهذا حلال!
وهنا يقول العلماء حين يقول الله تعالى قل كل من عند الله فليس معنى ذلك أنه ينسب الكذب الى ذاته المقدسة بل معنى ذلك نسبة الجهة الكمالية للفعل دون جهة النقص ونسبة الحسن دون القبيح فالصدق والكذب لهما جهة كمالية وحسنة وللكذب جهة نقص وقبح والمنسوب اليه تعالى جهة الكمال والحسن دون غيرها.
– السؤال الثاني هو أنه لماذا عادت الآية التالية ونسبت السيئة للانسان “وما أصابك من سيئة فمن نفسك” ؟
تتضح الاجابة على هذا السؤال بعد ملاحظة ما ورد في الاجابة عن السؤال الأول من تقسيم الفعل الى جهتين تشريعية وتكوينية وبعبارة أخرى أن نلحظ جهة الافتراق للصدق عن الكذب لا جهة الاشتراك بينهما.حيث أن الصدق موافق لارادة الله التشريعية بينما الكذب مخالف لها أي أنه مخالف لارادة الله وهو الكمال المطلق وبما أن ارادة الكمال المطلق كاملة فلا شك أن مخالفتها قبح ونقص وهذا ما ينسب الى العبد ولذلك نسبت السيئة اليه والخلاصة أن المنسوب الى الله تعالى جهة الكمال والى العبد جهة النقص بخلاف الحسنة التي تعتبر كمالا من كل الجهات.
عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: …قال الله: يا ابن آدم أنا اولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني، عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك.