الركائز العامّة لخطّ الشهادة
﴿ وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ وَنَعۡلَمُ مَا تُوَسۡوِسُ بِهِۦ نَفۡسُهُۖ ﴾1.
﴿ أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ عَبَثٗا وَأَنَّكُمۡ إِلَيۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ ﴾2.
﴿ وَٱلۡعَصۡرِ ١ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ ٢ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ ﴾3.
وضع الله سبحانه وتعالى إلى جانب خطّ الخلافة – خلافة الإنسان على الأرض – خطّ الشهادة الّذي يمثّل التدخّل الربّاني من أجل صيانة الإنسان الخليفة من الانحراف، وتوجيهه نحو أهداف الخلافة الرشيدة؛ فالله تعالى يعلم ما توسوس به نفس الإنسان، وما تزخر به من إمكانات ومشاعر، وما يتأثّر به من مغريات وشهوات، وما يُصاب به من ألوان الضعف والانحلال. وإذا ترك الإنسان ليمارس دوره في الخلافة من دون توجيه وهدىً، كان خلقه عبثًا ومجرّد تكريس للنزوات والشهوات وألوان الاستغلال.
وما لم يحصل تدخّل ربّاني لهداية الإنسان الخليفة في مسيره، فإنّه سوف يخسر الأهداف الكبيرة كلّها الّتي رسمت له في بداية الطريق.
وهذا التدخل الربّاني هو خطّ الشهادة. وقد صنّف القرآن الكريم الشهداء ثلاثة أصناف، فقال: ﴿ إِنَّآ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِيهَا هُدٗى وَنُورٞۚ يَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسۡلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ ﴾4.
والأصناف الثلاثة على ضوء هذه الآية هم النبيّون والربّانيون والأحبار، والأحبار هم علماء الشريعة، والربّانيون درجة وسطى بين النبيّ والعالم، وهي درجة الإمام.
الممثّلون لخط الشهادة
من هنا أمكن القول بأنّ خطّ الشهادة يتمثّل:
أولًا: في الأنبياء.
ثانيًا: في الأئمّة الّذين يعتبرون امتدادًا ربّانيًّا للنبي في هذا الخطّ.
وثالثًا: في المرجعية الّتي تعتبر امتدادًا رشيدًا للنبيّ والإمام في خطّ الشهادة.
دور الممثّلون لخط الشهادة
الشهادة على العموم يتمثّل دورها المشترك بين الأصناف الثلاثة من الشهداء فيما يأتي:
أوّلًا: استيعاب الرسالة السماوية والحفاظ عليها: ﴿ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ﴾5.
ثانيًا: الإشراف على ممارسة الإنسان لدوره في الخلافة، ومسؤولية إعطاء التوجيه بالقدر الّذي يتصل بالرسالة وأحكامها ومفاهيمها.
ثالثًا: التدخّل لمقاومة الانحراف، واتّخاذ كلّ التدابير الممكنة من أجل سلامة المسيرة.
فالشهيد مرجع فكري وتشريعي من الناحية الأيديولوجية، ومشرف على سير الجماعة وانسجامه أيديولوجيًا مع الرسالة الربّانية الّتي يحملها، ومسؤول عن التدخّل لتعديل المسيرة أو إعادتها إلى طريقها الصحيحة، إذا واجه انحرافًا في مجال التطبيق. هذا هو المحتوى المشترك لدور الشهداء بأصنافهم الثلاثة.
ومع هذا، فإنّ هناك فروقًا جوهرية بينهم في طريقه أداء هذا الدور. فالنبي هو حامل الرسالة من السماء باختيار الله تعالى له للوحي، والإمام هو المستودع للرسالة ربّانيًّا، والمرجع هو الإنسان الّذي اكتسب من خلال جهد بشري ومعاناة طويلة الأمد استيعابًا حيًّا وشاملًا ومتحرّكًا للإسلام ومصادره، وورعًا معمّقًا، يروّض نفسه عليه، حتى يصبح قوّة تتحكّم في كلّ وجوده وسلوكه، ووعيًا إسلاميًّا رشيدًا على الواقع وما يزخر به من ظروف وملابسات، ليكون عليه شهيدًا.
ومن هنا، كانت المرجعية مقامًا يمكن اكتسابه بالعمل الجادّ المخلص لله سبحانه وتعالى، خلافًا للنبوّة والإمامة؛ فإنّهما رابطتان ربّانيّتان بين الله تعالى والإنسان النبي أو الإنسان الإمام، ولا يمكن اكتساب هذه الرابطة بالسعي والجهد والترويض.
والنبي والإمام معيّنان من الله تعالى تعيينًا شخصيًّا، وأمّا المرجع فهو معيّن تعيينًا نوعيًّا؛ أي إنّ الإسلام حدّد الشروط العامّة للمرجع، وترك أمر التعيين والتأكّد من انطباق الشروط إلى الأمّة نفسها.
ومن هنا كانت المرجعية -كخطّ- قرارًا إلهيًّا، والمرجعية -كتجسيد في فرد معيّن- قرارًا من الأمّة.
وارتباط الفرد بالنبي ارتباطًا دينيًّا والرجوع إليه في أخذ أحكام الله تعالى عن طريقه يجعل منه مسلمًا بالنبي، وارتباطه بالإمام على هذا النحو يجعل منه مؤمنًا بالإمام، وارتباطه بالمرجع على النحو المذكور يجعل منه مقلّدًا للمرجع.
وهناك فارق آخر أساس بين النبيّين والربانيّين من الشهداء، وبين الأحبار منهم، وهو أنّ النبي والربّاني – الإمام – يجب أن يكون معصومًا؛ أي مجسّدًا للرسالة بقيمها وأحكامها في كلّ سلوكه وأفكاره ومشاعره، وغير ممارس، لا بعمد ولا بجهالة أو خطأ، أي ممارسة جاهلية. ولا بدّ أن تكون هذه العصمة المطلقة متوفّرة حتى قبل تسلّمه للنبوّة والإمامة؛ لأنّ النبوّة والإمامة عهد ربّانيّ إلى الشخص، وقد قال الله تعالى: ﴿ لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّٰلِمِينَ ﴾6.
فكلّ ممارسة جاهلية أو اشتراك ضمني في ألوان الظلم والاستغلال والانحراف تجعل الفرد غير جدير بالعهد الإلهي. وأمّا المرجعيّة فهي عهد ربّاني إلى الخطّ لا إلى الشخص؛ أي إنّ المرجع محدّد تحديدًا نوعيًا لا خصيًا، وليس الشخص هو طرف التعاقد مع الله، بل المركز كمواصفات عامّة، ومن هذه المواصفات العدالة بدرجة عالية تقرّب من العصمة، فقد جاء في الحديث عن الإمام العسكري عليه السلام: “فأمّا من كان من الفقهاء صائنًا لنفسه حافظًا لدينه مخالفًا لهواه مطيعًا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه”7.
ولكن هذه العدالة ليس من الضروري أن تبلغ درجة العصمة، ولا أن يكون المرجع مصونًا من الخطأ من الأحوال. ومن هنا كان هو بدوره بحاجة إلى شهيد ومقياس موضوعي، قال تعالى: ﴿ لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ﴾8.
شروط الشهيد في خط الشهادة
بالمقارنة بين آيات الشهادة في القرآن الكريم نستخلص شروط الشهيد، فالعدالة هي الوسطية والاعتدال في السلوك الّذي عبّر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ ﴾9.
والعلم واستيعاب الرسالة هو استحفاظ الكتاب الّذي عبّر عنه قرآنيًا بقوله سبحانه: ﴿ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ﴾10.
والوعي على الواقع القائم مستبطن في الرقابة الّتي يفترضها مقام الشهادة:
﴿ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ ﴾11؛ إذ لا معنى للرقابة من دون وعي وإدراك لما يراد من الشهيد مراقبته من ظروف وأحوال.
والكفاءة والجدارة النفسية الّتي ترتبط بالحكمة والتعقّل والصبر والشجاعة؛ هي الإمكانات الّتي توخّى الله سبحانه وتعالى تحقيقها في الصالحين من عباده، من خلال المحن والتجارب والمعاناة الاجتماعية في سبيل الله وربطها مقام الشهادة، فقال سبحانه: ﴿ إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ﴾12.
فالله تعالى يسلّي المؤمنين ويصبّرهم على المحن، ويبعث في نفوسهم العزيمة، ويعدهم بمقام الشهادة إذا اجتازوا التجارب والمحن صابرين.
وهكذا نخرج بنتيجة من ذلك بأنّ الشهيد، سواء كان نبيًا أو إمامًا أو مرجعًا، يجب أن يكون عالمًا على مستوى استيعاب الرسالة، وعادلًا على مستوى الالتزام بها والتجرّد عن الهوى في مجال حملها، وبصيرًا بالواقع المعاصر له، وكفؤًا في ملكاته وصفاته النفسية.
وقد شرحنا حتى الآن المعالم العامّة للخطّين الربّانيين، خطّ الخلافة – خلافة الإنسان على الأرض – وخطّ الشهادة – شهادة النبي والإمام والمرجع -. وهذان الخطّان يندمجان في بعض مراحلهما ويتجسّدان في محور واحد يمثّل الخلافة والشهادة معًا.
* الإسلام ومتطلبات العصر، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1 سورة ق، الآية 16.
2 سورة المؤمنون، الآية 115.
3 سورة العصر، الآيات 1 – 3.
4 سورة المائدة، الآية 44.
5 سورة المائدة، الآية 44.
6 سورة البقرة، الآية 124.
7 الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج 18، ص 94.
8 سورة الحجّ، الآية 78.
9 سورة البقرة، الآية 143.
10 سورة المائدة، الآية 44.
11 سورة المائدة، الآية 117.
12 سورة آل عمران، الآية 140.
31-07-2017 عدد القراءات 3