﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾1.
كثير من الناس يدخلون بعد النصر أفواجاً، لكنّ القليل الذين ينصرون الحقّ في أوقات المحن والبلاء.
من هؤلاء القليل أحد أولياء شهر رمضان أبو طالب عمران بن عبد المطلب (رض) الذي نبتدىء حديثنا عنه بالإشارة على طهارة آباء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
طهارة آباء النبيّ
قال تعالى: ﴿ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ﴾2.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “لم أزل أُنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات، حتى أُسكنتُ في صلب عبد الله، ورحم آمنة”3.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: “فاستودعهم في أفضل مستودع، وأقرّهم في خير مستقر”. تناسختهم كرائم الأصلاب، إلى مطهَّرات الأرحام. كلّما مضى منهم سلف قام منهم بدين الله خلف، حتى أفضت كرامة الله سبحانه إلى محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، فأخرجه من أفضل المعادن منبتاً، وأعزِّ الأرومة مغرساً، من الشجرة التي صدع منها أنبياءه وانتجب منها أمناءه”4.
قال الشاعر:
تنقل أحمد نوراً عظيماً
تلألأ في جباه الساجدين
تقلّب فيهم قرناً فقرناً
إلى أن جاء خير المرسلين5
آزر والتوحيد
بناءً على ما تقدَّم يرد سؤال حاصله:
كيف نجمع بين الاعتقاد بطهارة آباء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقصّة آزر في القرآن الكريم، إذ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾6.
والجواب: إنَّ العرب كانوا يطلقون على العمّ صفة الأب، ولهذا شاهدٌ في القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾7. فاسماعيل عليه السلام هو عمّ يعقوب عليه السلام وليس أباه، ومع ذلك شمله لفظ “آبائك”.
أبو طالب كفيل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
من الأصلاب الشامخة أولد عبد المطلب عبد الله والد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، الذي تكفلّه عمّه أبو طالب(عمران)، الموحِّد لله تعالى، فهو الذي طالما كان يسمعه أهل قريش ينطق بشعر التوحيد والعبودية لله تعالى، فيقول:
مليك الناس ليس له شريك
هو الوهّاب والمبدي المعيد
ومَن فوقَ السماء له ملاك
ومن تحت السماء له عبيد
وربّته فاطمة بنت أسد، التي قال عنها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاتها: “اللهم اغفر لأمّي فاطمة بنت أسد ولقّنها حجّتها، ووسّع عليها مدخلها”8.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم عنها
“هذه المرأة كانت أمي بعد أمي التي ولدتني”9.
في عمر 12 سنة أراد أبو طالب السفر في تجارة فأخذ معه محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم فلما خرج معه أظلَّته غمامة بقيت فوق رأسه حيثما حلّ وهذا ما زاد من تعلُّق أبي طالب عليه السلام بابن أخيه حتى قال فيه: وهناك لقيه بحيراء الراهب الذي رأى فيه تلاؤم النبيّ الخاتم، فأخبره بنبوّته.
قال أبو طالب (رض):
“إن ابن آمنة النبيّ محمداً
عنــدي يفــــوق منــــازل الأولاد”10.
أبو طالب يخطب طالباً يد خديجة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم
قال في خطبته:
“الحمد لله الذي جعلنا من ذريّة إبراهيم عليه السلام، وزرع إسماعيل عليه السلام، وجعل لنا بلداً حراماً، وبيتاً محجوباً، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إنَّ محمد بن عبد الله أخي من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح عليه برّاً وفضلاً وحزماً وعقلاً ورأياً ونبلاً، وإنْ كان في المال قلٌّ، فإنّما المال ظِلّ زائل، وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصداق فعليَّ، وله -والله- بعدُ نبأٌ شائع وخطب جليل”11.
أبو طالب المدافع عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
1- روى ابن الأثير في النهاية: لمّا أراد النبيّ أن يتكلم اعترضه أبو لهب، فقال له أبو طالب (رض): “اسكت”، ثم قال للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “قمْ يا سيّدي، فتكلّم بما تحبّ، وبلِّغ رسالة ربِّك؛ فإنك الصادق المصدَّق”.
2- وجاءت قريش تشكو محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأنّه يؤذيها في الكعبة والديار، ويُسْمِعهم ما يكرهون، فراجع أبو طالب النبيَّ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، فأجابه صلى الله عليه وآله وسلم: “والله، ما أنا بقادر أن أردَّ ما بعثني به ربّي، ولو أنْ يشعل أحدُهم من هذه الشمس ناراً”، فقال أبو طالب: “والله ما كذب قط، فارجعوا راشدين”12.
3- وجاء أهل قريش مرّة أخرى عند أبي طالب(رض) يطلبون منه أن يتحدَّث مع النبيّ أن يكفّ عن تعييب آلهتهم، وإلا فالحرب، فكان جواب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك فيه”13، فأجابه أبو طالب (رض): “اذهب -يا ابن أخي- فقل ما أحببت، فوالله لا أسلّمك لشيء أبداً”. وأنشد يقول:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
حتى أوسَّــد في التراب دفينا
فانفذ لأمرك ما عليك مخافة
وأبشر وقرَّ بذاك منه عيونا
وقد علمت أنّ دين محمّد
من خير أديان البرية دينا14
4- بينما كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مناجاة ربّه يؤدّي الصلاة جاء أحد المشركين وهو عبد الله بن الزَّبعري، ورمى عليه فرثَ ودم جزور، وعرف أبو طالب وجاء إلى أهل قريش الذين حاولوا الفرار من المجلس بعدما رأوا غضبه، لكنّه سمَّرهم بقوله “والله لئن قام رجلٌ جلَّلته بسيفي”15.
والتفت إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم: “يا بني، من الفاعل بك هذا؟” فدلّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ابن الزبعري، فوجأ أنفه، ثم مرَّ بالدن والفرث على القوم، ولطّخ به وجوههم ولحاهم وثيابهم، وأغلط عليهم القول، ثمّ قال لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: يا ابن أخي، أرضيت، سئلت من أنت؟
أنت محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، أنت والله أشرفهم حسباً وأرفعهم منصباً.
وأردف يقول:
أنت النّبيّ محمّد
قرم أغرّ مسوّد
لمسوّدين أكارم
طابوا وطاب المولد
أنَّى تضام ولم أمت
وأنا الشجاع العربد
وبنو أبيك كأنّهم
أسد العرين توقد
ولقد عهدتك صادقاً
في القول لا تتزيّد
ما زلت تنطق بالصواب
وأنت طفل أمرد16.
5- في ليلة الاسراء افتقد أبو طالب محمداً، فدعا فتيان بني هاشم، وأمر كلاًّ منهم أن يخبّئ تحت ثيابه سلاحاً، وأن يقف كل واحد منهم عند زعيم من رجال قريش، وبعد أن عاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أعلن أبو طالب(رض) لقريش ما كان يريد أن يفعل، فقال لهم:
“يا معشر قريش أتدرون ما هممتُ به،….والله لو قتلتموه ما أبقيت منكم أحداً، حتى نتفانى نحن وأنتم”، وأنشد:
ألا أبلغ قريشاً حيث حلَّت
وكل سرائر منها غرور
لآل محـمــــد راع حفــيـــــظ
وداد الصدر مني والضمير
ويشرب بعده الولدان رّياً
وأحمد قد تضمنه القبور
أيا بن الأنف أنفِ بني قُصَيٍّ
كأنَّ جبينك القمر المنير17.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشعر بدعم عمِّه الكبير الذي كان يحثّه على إظهار دعوته بقوله:
لا يمنعنّك من حقٍّ تقوم به
أيدٍ تصول ولا سلقٌ بأصوات
فإن كفَّك كفّي إن بليت بهم
ودون نفسك نفسي في الملمَّات
وفاة أبي طالب
في شهر رمضان وفيما كان شعره الإيماني يملأ قريشاً:
يا شاهد الله عليَّ فاشهدِ
آمنت بالواحد ربِّ محمدِ
من ضلَّ في الدين فإني مهتد
يا ربِّ فاجعل في الجنان موردِ
نزل جبرئيل قائلاً لمحمد: إن الله يأمرك أن تخرج من هذه القرية الظالم أهلها فإنّ ناصرك قد مات.
* كتاب شهر الله، سماحة الشيخ أكرم بركات.
1 سورة الانفال، الآية، 74.
2 سورة الشعراء، الآيتان: 218-219.
3 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج12، ص 48.
4 نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، ج1، ص 185.
5 الكجوري، محمد باقر، الخصائص الفاطمية، ط1، تحقيق علي أشرف، منشورات الشريف الرضي، 1380ش، ج2، ص 127.
6 سورة الانعام، الآية 74.
7 سورة البقرة الآية 133.
8 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج35، ص 179.
9 الأمين، محسن، أعيان الشيعة، تحقيق حسن الأمين، (لا،ط)، بيروت، دار التعارف، (لا،ت)، ج1، ص 325.
10 المفيد، محمد، إيمان أبي طالب، تحقيق مؤسسة البعثة، ط2، بيروت، دار المفيد، 1993م، ص36.
11 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج35، ص 158.
12 الأميني، الغدير، ط3، دار الكتاب العربي، بيروت، 1387هـ، ج7، ص 354.
13 الأمين، محسن، أعيان الشيعة، ج8، ص 115.
14 المرجع السابق نفسه.
15 القرطبي، تفسير القرطبي، تحقيق أحمد البردوني، (لا،ط)، دار احياء التراث العربي، بيروت، (لا،ت)، ج6، ص 406.
16 محسن الأمين، أعيان الشيعة، ج8، ص 119.
17 المصدر السابق، ص 121.